الانقسام داخل مجلس نواب الشعب المشتت يجعل حركة النهضة في وضعية لا تحسد عليها فمع تقلص عدد نوابها (52 على 207) وانحسار الوقت ترى نفسها مضطرة لإعادة قراءة الواقع السياسي من جديد و البحث عن تحالفات مع كتل أخرى وهو ما سيكون صعبا جدا في ظل إدراك هذه الكتل لحاجة الحركة الاسلامية الملحة للحصول على الدعم اللازم لنيل الحكومة لثقة البرلمان.
بقلم فيروز الشاذلي
منذ تحصلها على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الفارطة و حركة النهضة تتعامل على منطق الفائز والمنتصر بلا قيود و تمارس التكبر تجاه الأطراف السياسية الأخرى بمقدار أكبر من حجم تمثيلها البرلماني الذي لا يتجاوز ربع مقاعد البرلمان، هذه السريالية البعيدة عن الواقع اكتشفتها الحركة في أول اختبار جدي بالبرلمان بالأمس الثلاثاء 10 ديسمبر 2019 حيث سقطت أهم المقترحات الانتخابية للحركة وهي صندوق الزكاة وصندوق الكرامة وظهرت الحركة في موقف عزلة سياسية حقيقية داخل البرلمان.
حركة النهضة ترجع إلى حجمها الانتخابي الحقيقي
أن يكون لحركة النهضة 52 مقعدا نيابيا فقط وتتعامل بمنطق القوة المسيطر على البرلمان والتي تستطيع فرض إدارتها وتمرير القوانين التي تريدها فهذا يدخل في باب الغرور القاتل، فإصرارها يوم أمس على تمرير مقترحاتها دون التشاور مع المكونات الأخرى داخل المجلس وعدم انتظار تشكيل الحكومة جعلها تعيش طعم الهزيمة والتقوقع و الرجوع إلى حجمها الحقيقي.
ما جرى لحركة النهضة يوم أمس يذكرنا بمقطع بيت الشاعر العربي أبوبكر بن عمار الأندلسي (“كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد”) فرغم حجمها الضئيل في المجلس النيابي إلا أنها تتصرف من دون وعي أو إدراك لذلك فأخذت تتعامل مع الأمور بمنطق استعلاء ومحاولة زجر الكتل الأخرى وترهيبها إعلاميا لكن في الأخير انفجرت هذه الهالة الكبرى التي رسمتها الحركة حول فوزها الانتخابي.
هذا هو حال كل من يصيبه الغرور ويملأه الكبر و التسلط، وهو ذاته حال أولئك الأدعياء المساندين للحركة من نواب ائتلاف الكرامة المسكونين بمـا لا يقدرون عليه.
وهذا أيضاً حال كل من لا يعرف حجمه الحقيقي ومقدرته الفعلية فيصبح ظالماً لنفسه حين يقوده الحقد والغرور إلى الاختناق وهو يعلم أنه يسوق نفسه قسراً إلى العزلة السياسية.
اختيار التوقيت القاتل
أكبر خطأ ارتكبته النهضة يوم أمس هو اختيار توقيت غير مناسب بالمرة فالزمن السياسي لا يرحم، والكتل الرئيسية في المجلس ككتلة قلب تونس، الكتلة الديمقراطية وكتلة الإصلاح الوطني ترى نفسها معنية بتكوين الحكومة وكلها قدمت طلباتها لرئيس الحكومة المكلف من النهضة السيد الحبيب الجملي وتنتظر تفاعل هذا الأخير مع طلباتها وتنتظر كذلك دور حركة النهضة في التعامل مع هذه الأحزاب أي أننا بصدد فترة جس نبض سياسي والتحالفات الخاصة بالحكومةلم تولد بعض، فإذا بحركة النهضة تقدم مقترحاتها الانتخابية التي هي أصلا محل جدل كصندوق الزكاة وصندوق الكرامة للتصويت في البرلمان في محاولة لتمريره بقوة خلال الجلسة العامة وهو ما لم تستسغه الكتل الأخرى حتى الكتل التي كانت مناصرة لكتلة حزب النهضة في انتخاب الغنوشي على رأس البرلمان ككتلة قلب تونس والإصلاح الوطني.
هذا الرفض للتأييد من قبل هذه الكتل له عوامله الموضوعية فإصدار قوانين خاصة بصندوق الزكاة وصندوق الكرامة سوف يصبح تشريعا داخلا في صلب عمل الحكومة القادمة التي لم تشكل بعد فكيف تريد النهضة من كتل لم تعرف مصيرها بعد بين الوجود في الحكم أو المعارضة أن تصوّت لتشريعاتلم تناقشها أصلا الحركة مع الأحزاب وهو ما يدخل في خانة التصويت على بياض للحركة الذي رفضته الكتل الأخرى، وبهذا التصرف جعلت الحركة نفسها في وضع ضعف واضح وسهلت الأمر على خصومها السياسيين للتصويب على دور الحركة ومحدودية تمثيلها الإنتخابي.
المشهد السياسي يرجع إلى البداية
كان من الواضح أن خريطة طريق ترسم بمهل بين قطبي البرلمان النهضة وقلب تونس استهلها الجانبان بدعم ترشيح راشد الخريجي الغنوشي إلى رئاسة البرلمان و سميرة الشواشي كنائبة أولى ثم بعد ذلك الدخول في البحث عن صيغة تكفل دعم الطرفين للحكومة القادمة من خلال دعم قلب تونس دون المشاركة المباشرة في الحكومة أو تسمية شخصيات من قبل قلب تونس لتولي مناصب وزارية، لكن ما حدث أمس هو إعادة خلط الأوراق من جديد فرفض النهضة للتشاور حول مقترحات كتلة قلب تونس بخصوص صندوق الزكاة ورفض قلب تونس التصويت لهذا المقترح أدى إلى وجود أغلبية معارضة داخل البرلمان تضاف إلى المعارضة المتمثلة في الكتلة الديمقراطية وتحيا تونس، مما يؤكد أن حركة النهضة فشلت في إيجاد تحالفات قوية وتستطيع مقاومة الشد السياسي مع الكتل الأخرى والتي من خلالها تستطيع توفير أغلبية برلمانية مريحة للحكومة القادمة.
هذا الانقسام داخل البرلمان المشتت يجعل حركة النهضة في وضعية لا تحسد عليها فمع انحسار الوقت يجب عليها إعادة قراءة الواقع السياسي من جديد و البحث عن تحالفات مع كتل أخرى وهو ما سيكون صعبا جدا في ظل إدراك هذه الكتل لحاجة النهضة الملحة للحصول على الدعم اللازم لنيل الحكومة لثقة البرلمان.
ملف تكوين الحكومة على المحك
بفضل التسرع وعدم قراءة المرحلة السياسية بدقة من طرف حركة النهضة فإن الانقسام المستجد بالبرلمان سوف يكون له الأثر السيء على ملف تكوين الحكومة، فمنطقيا كان من المفروض على حركة النهضة التركيز على دعم جهود رئيس الحكومة المؤلف في تكوين حكومته واستقطاب أكثر ما يمكن من الدعم وليس طرح مشاريع قوانين خلافية في هذا الوقت بالذات وهو ما سيلقي بظلاله على مفاوضات تشكيل الحكومة فكل الأحزاب سوف تفكر جيدا قبل المشاركة في هذه الحكومة بعد ما رأته من حركة النهضة في البرلمان ومحاولة تمرير القوانين دون تشاور والتعامل بمنطق الغالب وليس بمنطق التحالف السياسي.
من جانب آخر حتى لو تكونت الحكومة ونالت الثقة فهي ستبقى رهينة مساندة الكتل البرلمانية من عدمها وهو ما نجحت فيه بالأمس من تمرير هذه الرسالة مما يعطينا فكرة واضحة أن الحكومة القادمة سوف تكون ضعيفة على مستوى الحزام السياسي الداعم وقابل للانكسار في أي لحظة نتيجة تفاهمات هشّة.
شارك رأيك