حول شخصية الزعيم النقابي والمناضل الوطني أحمد التليلي تدور وقائع الفلم الوثائقي “أحمد التليلي، ذاكرة الديمقراطية”. يأخذنا الشريط ثائقي لمخرجه المبدع عبد الله شامخ في رحلة عبر الزمن إلى فترة ما تزال دراستها إشكالية لثرائها وكثافة أحداثها واختلاف زوايا تناولها اشتباك متواصل بين السياسة والنقابة.
بقلم أحمد فرحات حمودي *
يقاس مدى نجاح الفيلم الوثائقي بنظري وبالإضافة إلى جوانبه التقنية ونصه المصاحب بمدى كشفه لخفايا وكواليس غابت عن الكاتب الرسمي للتاريخ وهنا تماما كانت فرادة هذا الفيلم الذي أشاح الغطاء على كواليس خفيت على عموم قارئي التاريخ والمولعين بدراسة هذه الفترة الفاصلة والحاسمة من تاريخ تونس من نهاية الأربعينات الى نهاية الستينات.
من خلال الأرشيف الوطني وبالإعتماد على شهود ومرجعيات حاول عبد الله شامخ إماطة اللثام على غموض مازال يلف قصة الزعيم النقابي احمد التليلي وكشف مناطق ظلمتها وأسرارها من علاقته بالثورة الجزائرية وقيادته السياسية لثوار منطقة الحوض المنجمي عشية انطلاق الثورة التونسية المسلحة في جانفي 1952 غداة فشل المفاوضات مع الاستعمار حول الإستقلال التي كانت تقودها حكومة محمد شنيق لمؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1954 وانتخابه وهو في السجن أمينا عاما مساعدا للأمين العام الشاب حينها أحمد بن صالح إلى خلع هذا الأخير من على رأس المنظمة الشغيلة وانتخابه بدله سنة 1957 …
أحمد التليلي ضد سياسة التعاضد وسياسة تكميم الأفواه
نجح الوثائقي أيضا في الكشف عن العلاقة الوطيدة بين التليلي ووزير الداخلية في حكومة الاستقلال الطيب المهيري ومسكهما معا لأخطر الملفات وهو ملف الثورة الجزائرية.
كان أحمد التليلي واضحا غير موارب فاعترض بقوة على الطريقة التعسفية التي أراد بها أحمد بن صالح أن يفرض منوال التعاضد على المواطنين التونسيين المتوجسين منه واعترض على مؤتمر المصير ببنزرت للحزب الحر الدستوري الجديد ببنزرت والذي صار بمقتضاه اسم الحزب الحزب الاشتراكي الدستوري وليصار الي ضم كل المنظمات الوطنية صلبه وتكميم كل الأفواه المعترضة.
إختلف التليلي إذن مع بورقيبة ووزيره الأول بن صالح الرجل القوي حينها ولم يبق من غطاء سياسي له سوى وزير الداخلية الطيب المهيري لذلك لم ينتظر التليلي كثيرا وبمجرد وفاة الطيب المهيري غادر التليلي إلى فرنسا أين عاش طويلا على هاجس الإغتيال فقضي ليال طويلة متنقلا بين القطارات وكان يلتقي لماما رفيق دربه الصادق علوش الذي كانت شهادته في الوثائقي لحظة قوية ومؤثرة.
الأب الروحي للحركة الديمقراطية التونسية
هناك في المنفى كتب رسالته الشهيرة إلى الزعيم بورقيبة شارحا له الوضع البائس الذي وصلت له تونس ونادى بالديمقراطية كشرط لنجاح أي منوال تنموي.
كانت أول صرخة من أجل الديمقراطية في تونس ولذلك اعتبرت الحركة الديمقراطية التونسية التي نشأت وتبلورت نهاية السبعينات أحمد التليلي أبا روحيا لها ولذلك كانت الشعارات التي صدحت حناجر المتظاهرين خلال الثورة التونسية هي نفسها المطالب التي خطها أحمد التليلي في رسالته الشهيرة للزعيم بورقيبة وسط الستينات. لقد أكد بذلك أحمد التليلي الزعيم النقابي والمناضل الوطني أنه وبجدارة ذاكرة الديمقراطية التونسية.
لقد تعمد المبدع عبدالله شامخ عدم الوقوف على نهاية أحمد التليلي لأن فكره لا يموت وأن الأسئلة والقضايا التي آمن بها وطرحها قبل ستين عاما لم تفقد راهنيتها وأنه لا مجال للفصل بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقدم المجتمع.
إنه جواب واضح للقائلين اليوم بخطئ تلازم الديمقراطية والتنمية والداعين إلى التخلي عن التجربة الديمقراطية واستعادة مناخات الإستبداد كشرط أساسي للنهوض الاقتصادي.
لقد كان هذا الفيلم الوثائقي التاريخي تكريما لشخصية تاريخية كانت أحد رموز الحركة الوطنية وفجر دولة الإستقلال ولكنه كان أيضا جوابا على سؤالات الحاضر المستعرة حول جدلية الديمقراطية والتنمية.
* نا شط سياسي.
شارك رأيك