تتسارع الأحداث في الشقيقة ليبيا على إيقاع سريع وفوضوي وتتراكم تبعا لذلك المخاوف في غفلة من حكام بلادنا الذين تناسوا أن تونس ستكون أول من سيدفع الثمن الباهظ ويحترق بنيران الفتنة المضطرمة على مشارف حدودها الجنوبية ! يحدث هذا وتاريخنا الطويل مع الجارة الشقيقة ليبيا مليء بالأحداث والوقائع المحملة بالدروس والعبر ومنها بالخصوص درس حمودة باشا الذي سارع بالتدخل لإطفاء لهيب الفتنة في طرابلس يوم الثاني من شهر نوفمبر 1794 للميلاد متحديا بذلك السلطنة العثمانية وعملاءها في تونس وليبيا والجزائر .
بقلم مصطفى عطية *
تدور الأحداث في العشرية الأخيرة من القرن الثامن عشر وكأنها تعاد اليوم بتفاصيل تكاد تكون متشابهة بشكل مدهش. ففي السادس من شهر جويلية 1793 تصاعد الصراع على السلطة في ليبيا بين أفراد عائلة القرمانلي الحاكمة وفجأة أرسى في ميناء طرابلس أسطول يحمل العلم العثماني ويقوده قابوجي باشي مصحوبا بأربع مائة عسكري مسلح، ترجل القائد وتلا فرمانا سلطانيا يقر بخلع علي القرمانلي وتولية علي أفندي برغل الملقب بالجزائري مكانه، وهو إنكشاري من بلاد الكرج أقام طويلا بالجزائر حتى أصبح ينسب إليها.
يقول المؤرخ الكبير الراحل رشاد الإمام في كتابه “سياسة حمودة باشا في تونس” : “بالنسبة لحمودة باشا وسياسته الخارجية، كان الأمر لا يقف عند حد عزل وال وتعيين آخر، بل كان حدثا كبيرا يهدد أمن تونس واستقلالها… فقرر الهجوم برا وبحرا” لحماية بلاده من آثار وتداعيات الفتنة.
تحرك حمودة باشا لحماية أمن تونس واستقراره
في الثاني من نوفمبر 1794 أقلع الأسطول التونسي بٱتجاه جربة وحررها من من جنود علي برغل وعملائه الذين تسللوا إليها ثم إتجه إلى طرابلس ترافقه حملة برية قوامها نحو عشرين ألف رجل بقيادة الوزير يوسف صاحب الطابع.
بعد شهرين ونصف وتحديدا في السادس عشر من جانفي 1795 كان الجيش التونسي قد احتل المناطق المتاخمة للعاصمة طرابلس مدعوما بعناصر من القبائل الليبية التي هبت من كل حدب وصوب لنصرة قوات حمودة باشا. وعندما وجد علي برغل نفسه محاصرا وقد هرب الكثير من جنوده ومرتزقته “ملأ سفينتين بما سلبه من قلعة طرابلس، وبعد أن ارتكب آخر عمل من أعمال القسوة بذبحه الرهائن والأسرى، أبحر مع رجاله ورفع شراعه نحو مصر” ( ب. روا : “وثائق عن حملة طرابلس”)
حمودة باشا يعيد الإستقرار إلى طرابلس
يقول المؤرخ رشاد الإمام رحمه الله في كتابه المشار إليه آنفا : “عندما رجع الجيش منتصرا إلى تونس، بعد أن أتم المهمة الموكلة إليه بكل نجاح وأرجع القرمانليين إلى عرشهم، ذهب الباي (حمودة باشا) بنفسه لٱستقبال قائد الحملة تكريما له” معلنا تحقيق هدفه في حفظ سيادة تونس وتأمين إستقرارها ودرء مخاطر اللهيب القادم من ليبيا.
يذكر المفكر الفرنسي الشهير جان جاك روسو أن مبادرة حمودة باشا بإطفاء نيران الفتنة في طرابلس ومنع انتقالها إلى تونس أثارت غضب واستياء الدولة العثمانية ورفعت عاليا شهرة حمودة باشا في المنطقة.
الدرس الذي غفل عنه حكام تونس الحاليين
إن ما حدث في ليبيا في أواخر القرن الثامن عشر يعاد اليوم بشكل أكثر خطورة على تونس وأمنها ولكن حكام هذا الزمن في بلادنا يفتقرون لنباهة وحنكة وحكمة حمودة باشا وحرصه الشديد على حماية تونس واستقرارها. لا يعني هذا أننا نطالب السلط التونسية بالقيام بحملة عسكرية على طرابلس لإطفاء سعير الفتنة المتصاعدة هناك كما فعل حمودة باشا، فالزمن ليس هو الزمن والأوضاع الإقليمية والدولية مختلفة تماما، والمواثيق الدولية تمنع ذلك، ولكننا ندعو حكام البلاد، من خلال تذكيرنا بهذه الوقائع، إلى استخلاص العبرة مما حدث منذ قرنين وربع القرن، والإقتداء بحكمة وحرص حمودة باشا على حماية بلادنا وذلك بالتدخل المباشر في الملف الليبي وممارسة حق تونس التاريخي في استنباط الحلول لإنهاء الحروب على حدودنا الجنوبية ومنع وصول لهيبها إلى أراضينا. أما البقاء على الربوة والإكتفاء بالمساندة الإعلامية لهذا الطرف أوذاك فمن شأنه أن يعرض بلادنا إلى أشد المخاطر على أمنها القومي واستقرارها في الحاضر والمستقبل.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك