الموقف المبدئي الذي انطلقت منه رئاسة الجمهورية التونسية هو الاستمرار في نهج الحياد إزاء الصراع الداخلي في الجارة ليبيا لكن تبيّن مع الوقت أنه حياد سلبي غذّته مشاكل الانقسام الداخلي وعدم التسريع في تشكيل الحكومة الجديدة، وهو مما شكّل عبئا إضافيا على مشاكل الدبلوماسية التونسية.
بقلم فيروز الشاذلي
الأوضاع و التطورات العسكرية في الجارة ليبيا تتسارع يوما بعد يوم وطبول الحرب تقرع بقوة، أمّا الصراع السياسي والدبلوماسي قبل مؤتمر برلين حول إرساء السلام بليبيا فلا يقل ضراوة عن الصراع العسكري الميداني بين المعسكرين المتناحرين سواء الحلف الداعم لقوات المشير خليفة حفتر بشرق ليبيا أو الحلف الداعم لقوات الوفاق.
مقابل هذه الديناميكية الدبلوماسية الكبيرة للدول المعنية بالصراع الليبي نجد ما يشبه لا مبالاة أو نوع من التقصير الدبلوماسي التونسي، مما يثير التخوف الجدي من إمكانية وجود سيناريوهات يتم إعدادها في ليبيا تكون على حساب المصالح العليا لتونس، كأن يتم إغراق تونس باللاجئين، كما وقع لبلدان أخرى كلبنان والأردن التي تم إغراقهما باللاجئين السوريين وما زالتا للآن تحت وطأة هذه المشكلة منذ ثمانية سنوات، حيث يضم لبنان مليون ونصف لاجئ سوري، أما الأردن فيضم قرابة 700 ألف لاجئ.
كان الموقف المبدئي الذي انطلقت منه الرئاسة التونسية هو الاستمرار في نهج الحياد إزاء الصراع الداخلي الليبي لكن تبيّن مع الوقت أنه حياد سلبي غذّته مشاكل الانقسام الداخلي وعدم التسريع في تشكيل الحكومة الجديدة مما شكّل عبئا إضافيا على مشاكل الدبلوماسية التونسية.
من جهة أخرى يبرز بوضوح القصور الدبلوماسي التونسي من خلال عدم التنسيق الإستراتيجي لحد التكامل والتطابق مع الجارة الجزائر، إذ من غير المقبول ألا تكون هناك مقابلة رسمية بين الرئيسين التونسي والجزائري من أجل تثبيت مواقف الطرفين قبل مؤتمر برلين، في حين أن أطراف بعيدة نسبيا عن الجوار الليبي مثل تركيا لا يمر يوم إلا و رئيسها أردوغان ومعاونوه يقومون بزيارات مكوكية للدول المعنية بالصراع الليبي لحشد التأييد قبل المؤتمر المقرر في الأيام القادمة.
الحياد السلبي لا معنى له
الحياد السياسي تجاه الصراع الداخلي الليبي في عمومه ليس موقف ضعف أو تشكيك لكن لا يمكن بأي حال أن يتحوّل إلى موقف إستكانة أمام التطورات الحاصلة سواء على الجانب العسكري الميداني أو الدبلوماسي بالخصوص، فالحيادية تعني ألا تتورط تونس في دعم أحد الأطراف المتصارعة عسكريا على حساب الطرف الآخر سواء من خلال الإمداد العسكري أو تسهيل إمدادات الأطراف الخارجية الداعمة عن طريق المجال الجوي، البري أو البحري التونسي، وهو موقف يتماشى مع مبادئ الأمم المتحدة ومع مقررات اتفاق السلام بالصخيرات المغربية حول ليبيا، لكن هذا لا يعني أن تضطلع تونس بدور إيجابي يحمي مصالحها وأن تعطي وجهة نظرها للأطراف المهتمة بالموضوع، خاصة أننا سوف نتأثر بأي قرار سيتم اتخاذه بخصوص النزاع الليبي كما أننا نمتلك حدودا كبيرة مع الجارة الشرقية والخزّان البشري الكبير في ليبيا متاخم للحدود التونسية وليست الحدود الجزائرية-الليبية التي أغلبها عبارة عن صحراء شاسعة.
كما لا ننسى معطى هاما يجب مراجعته وهو تأثر الوضع الاقتصادي التونسي فيما يتعلق بتراجع المبادلات التجارية نتيجة توجه حكومة الوفاق نحو السوق التركية وهذا لا تلام فيه حكومة الوفاق الليبية بقدر ما تلام فيه الدبلوماسية التونسية منذ عهد المرحوم الباجي قائد السبسي، فلولا سياسة الحياد التي انتهجتها تونس ما كانت حكومة الوفاق لتستمر طول هذا الوقت لأن هذا الحيادلم يسمح للأطراف الداعمة لحفتر كالإمارات ومصر بتطويق قوات الوفاق من الغرب الليبي بالرغم من الإغراءات التي قدمتها هذه الدولة الخليجية لتونس في عهد المرحوم الباجي قائد السبسي، لكن للأسف لم يتم استثمار هذه الورقة القوية ديبلوماسيا من منطلق العقلية التونسية التي تتعامل دائما من منطلق ضعف.
غياب التنسيق الفاعل مع الجزائر أكبر الأخطاء
من سمات الحياد السلبي للدبلوماسية التونسية نجد كذلك عدم تفعيل العلاقات التونسية الممتازة مع بعض الدول المعنية بالملف الليبي والراعية لمؤتمر برلين كالشركاء الأوروبيين مثل فرنسا وإيطاليا لنا حيث كان من المفروض استثمار هذه العلاقة المتقدمة مع الجانب الفرنسي لإيصال وجهة النظر التونسية والتشديد على ضرورة وجود حلول سياسية تراعي مصالح دول الجوار باعتبارها مشكلة أمن قومي تونسي، لكن نجد أن الجهود المبذولة من الرئاسة التونسية ووزارة الخارجية ليست في هذا المستوى ويمكن أن تكلفنا الكثير، فإلى حد الآن الدولة الوحيدة من دول الجوار الليبي التي لم يتم استدعاؤها رسميا إلى مؤتمر برلين هي تونس بالرغم من دعوة كل من مصر، الجزائر، قطر و الإمارات، رغم أن هذين البلدين بعيدين عن ليبيا بألاف الأميال.
في ملف شائك ومعقد كالأزمة الليبية وتحوّلها إلى مواجهة إقليمية بتدخل عسكري مباشر وغير مباشر من دول قوية عسكريا كروسيا، تركيا، مصر والإمارات فالموقف الفردي لتونس سيكون ضعيفا للغاية لأنه سيصبح صراع الأقوياء، لهذا السبب بالتحديد كان المفروض التنسيق الحيني مع الجارة الشقيقة الجزائر خاصة وأنها قد خرجت من أزمتها الداخلية بانتخاب رئيسها الجديد السيد عبد المجيد تبون، ولكن للأسف إلى حد الأن لم نشهد زيارة رسمية بين الرئيسين لتبني موقف مشترك و إستراتيجية متكاملة بين الطرفين، بكل موضوعية هذا التوجه يمثّل قصر نظر فادح في الرؤية الدبلوماسية للرئاسة التونسية.
قيس سعيّد لا يتحمل وحده المسؤولية
الأخطاء المرتكبة على صعيد ممارسة السياسة الخارجية لتونس خاصة مع ملف مهم ومصيري كالصراع العسكري في ليبيا يعطي فكرة على نقص الخبرة لدى شخص الرئيس قيس سعيّد وكذلك للطاقم المحيط به خاصة وزير الخارجية المكلّف لكن لا يمكن تحميل قيس سعيّد كامل المسؤولية لوحده خاصة مسألة العزلة الخارجية التي تعاني منها الدبلوماسية التونسية فهي ليست وليدة اللحظة فكل الحكومات تقريبا بعد الثورة فشلت في هذا الموضوع حتى أيام المرحوم الباجي قائد السبسي الذي يعتبر عميد الدبلوماسية التونسية، وهذا يرجع بالأساس لأن العالم يتغيّر ونحن مازلنا نتعامل مع هذه التغيرات بمنطق مدارس الدبلوماسية للستينات والسبعينات، فحتى شعار الدبلوماسية الاقتصادية فشلنا في تكريسه على أرض الواقع، ففشلنا في إيجاد أسواق جديدة “لصابة” زيت الزيتون على مدار السنوات الفارطة و”صابة” القوارص السنة الفارطة تم إتلاف كميات كبيرة منها في ظل عدم توفير مسالك توزيع خارج البلاد.
في نفس هذا الإطار هناك مسؤولية كبرى تقع على الطبقة السياسية خاصة الأحزاب فلا يمكن أن تكون لدولة دبلوماسية قوية وصوت مسموع وهي تعيش صراع داخلي حول مفهوم الأمن القومي للبلاد وتقوم بنقل الصراع الداخلي وإسقاطه على ملفات خطيرة كالصراع العسكري بليبيا فشق من الأحزاب متمترس وراء محور المشير خليفة حفتر وشق آخر يسوّق لحكومة السرّاج ولا يوجد أي حزب دافع عن مصلحة تونس و أمنها القومي.
من جهة أخرى لا ننسى أن الوضع السياسي الداخلي المترتب على التأخير في تشكيل الحكومة جعل رئيس الجمهورية في موقف لا يحسد عليه فإن هو غادر أرض الوطن فيعتبر متخاذلا في تحمل مسؤولية دولة بدون وجود حكومة رسمية وإن سعى إلى الدفع باتجاه تشكيل هذه الحكومة وقع في تفاصيل الخلاف الحزبي الضيق في تونس على حساب الملفات الخارجية التي لا تنتظر.
شارك رأيك