مازال الشعب التونسي ينتظر شروق شمس الانتقال الديمقراطي في ظل ظلام دام طويلا لمطبّات تحول سياسي حوّل حياته إلى مختبر عند الأحزاب السياسية وأرخى سدوله على آماله بمستقبل واعد، فالأحزاب السياسية لكل منها قراءته الخاصة لسقوط حكومة الحبيب الجملي وعدم التوصل لتركيبة تلبي تطلعات الشعب الكادح، بين أحزاب ترى نفسها مستفيدة من ذلك و أخرى ترى نفسها خسرت الرهان، لكن هذا التشتت لدى الأحزاب نجده قد وحّد الشعب التونسي في جعله يعيش وحدة الضحية لهذه المنظومة السياسية الفاشلة.
بقلم فيروز الشاذلي
هذه الوضعية تعطي مسؤولية كبرى لرئيس الجمهورية السيد قيس سعيّد باعتباره سوف يلعب دور “بيضة القبّان” في تشكيل الحكومة المقترحة عبر اختيار الشخصية المؤهلة للتكليف وإعادة تركيب “البازل” السياسي للأحزاب السياسية في تونس وفقا لذلك. لكن الأكيد أن هذه المسؤولية الملقاة على عاتق رئيس الجمهورية لن تكون سهلة أمام تعنت الفرقاء السياسيين، فهل ينجح قيس سعيّد بشعبيته الكبيرة في تجاوز ذلك؟ وهل يشق الفجر طريقه إلى هذا الليل الدامس الذي طال على التونسيين؟
نهاية منتظرة لحكومة الجملي
ربما من المراّت القلائل حتى على المستوى العالمي أن تعرف بنتيجة سقوط حكومة قبل عرضها على نيل الثقة داخل البرلمان، كما صار مع حكومة الجملي، فهي كانت تشكيلة ميتة قبل ولادتها لأنها نتيجة مسار تكوين سياسي خاطئ لمقاربة سياسية من قبل النهضة أقل ما يقال عنها أنها منفصمة عن الواقع السياسي التونسي، فأي خريطة طريق نموذجية لتكوين حكومة ناجحة تستلزم أساسا البدء في تكوين جبهة سياسية موحدة للحكم على مدى خمسة سنوات بمعية الكتل السياسية الأخرى لانعدام الأغلبية لدى الحزب الفائز وهو حزب النهضة، ومن بعد ذلك النظر حسب أولويات هذا الحلف السياسي في تعيين رئيس الحكومة وأعضائها، لكن خلاف ذلك رأينا بدعة تونسية تتمثل في عكس الأمور من خلال تقديم الحزب الفائز دون التشاور مع الأحزاب الأخرى لرئيس حكومة مكلّف قام بتعيين وزرائه ثم بعد ذلك البحث عن مساندة سياسية داخل البرلمان تواصلت إلى اللحظات الأخيرة قبل التصويت عليها فكانت النتيجة كارثية بالنسبة لحركة النهضة، فقد كرّست عزلتها داخل البرلمان وقوّت شوكة خصومها السياسيين وأعطت انطباعا بأن التشكيلة المقدمة من لون واحد.
نبيل القروي يناور لآخر لحظة
بعد فشل المحادثات و المفاوضات بين حزب النهضة والأحزاب الأخرى المحسوبة على الخط الثوري كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب، كانت حركة النهضة تعتقد جازما أنها ستكون في طريق مفتوحة للحصول على تأييد حزب قلب تونس واستغلال الضغط المسلط على رئيس هذا الحزب نبيل القروي فيما يتعلّق بملفاته القضائية وما راج حول حتمية إعطاء الثقة لحكومة النهضة مقابل قطع الطريق أمام يوسف الشاهد، وهو ما جعل حركة النهضة والسيد الحبيب الجملي يتعاملون بمنطق استعلاء مع الأحزاب الأخرى حتى مع حليفهم المفترض قلب تونس الذي اشتكى رئيسه نبيل القروي من ضعف تمثيلية حزبه في هذه الحكومة بالرغم من حصوله على المرتبة الثانية في البرلمان، لكن ما قلب الموازين هو المناورة السياسية التي قام بها كل من نبيل القروي و يوسف الشاهد والتي لم تكن منتظرة من قبل حركة النهضة حيث عقد الطرفان لقاء حاسما لفض الاشكاليات بينهما، وليس هذا فحسب بل تجاوز مرحلة الخلافات وتصفية الحسابات إلى مرحلة التنسيق داخل البرلمان والسعي نحو تكوين أكبر كتلة برلمانية تضم 93 نائب بقيادة نبيل القروي، وهو ما مثّل ضربة قاضية لجهود حركة النهضة في حشد تأييد قلب تونس لحكومة الجملي، خاصة على مستوى التوقيت حيث لم يعد بالإمكان مراجعة التركيبة الحكومية بفعل إمضائها من قبل رئيس الجمهورية و إحالتها للبرلمان للجلسة العامة لنيل الثقة.
الشعب التونسي هو الضحية الوحيدة
بعد تعطّل مسار تشكيل الحكومة وتجاوز فترة تسيير الأعمال من قبل الحكومة المؤقتة لثلاثة أشهر يبدو بكل وضوح أن الشعب التونسي هو الوحيد الضحية في كل هذه المتاهة السياسية التي لا تنتهي خاصة أن هذه المرحلة يمكن أن تطول إلى حدود 15 مارس كآخر تاريخ محدد لتشكيل الحكومة من قبل الشخصية المكلفة من رئاسة الجمهورية، مقابل ذلك تتعمّق مشاكل المواطن التونسي كل يوم ولا من يحسّ بمشاكله أو يسأل عن همومه، فمن المعروف أن هذه الفترات الزمنية التي تشهد إرتخاءا على مستوى تسيير الدولة نتيجة الفراغ السياسي هي الفترات المحبّذة لدى المضاربين والفئة الجشعة من التجار و الموزعين فترى الأسعار تزيد يوميا والمعيشة أغلى خاصة إذا عرفنا أن أغلب المنتوجات تباع وفق تسعيرة حرة.
من جهة أخرى، أصبح الشعب التونسي تحت ضغط الإحساس بعدم الأمن نتيجة عدم وضوح الرؤية السياسية ووجود مخاطر محدقة من المواجهات المسلحة بالجارة ليبيا التي من الممكن أن تنفجر في أي لحظة لتعرّض أمن حدودنا للخطر و تأثيراتها السلبية على السياحة التونسية التي إسترجعت نسقها العادي بأشق الأنفس.
المنظومة السياسية سبب البليّة
لا شك أنه أصبح من الواضح أن الأزمة السياسية التي نعيشها في تونس ترجع إلى المنظومة السياسية التي لا تلائم بتاتا الواقع السياسي والإجتماعي التونسي فهي منظومة سياسية تعاملنا على أساس أقليات داخل الدولة وأبرز تمشّي خدم وجود هذا التشتّت هو النظام الانتخابي الذي أفرز نوعين من النواب، صنفا أول يفوز بكامل القاسم الانتخابي وفي أمثلة عديدة يصل إلى أكثر من 12 ألف صوتا من الناخبين وصنفا ثان يفوز بمجرد الحصول على أقل من 500 صوت أو ما يعبّر عنه بأكبر البقايا، فحتى التسمية التي تطلق عليه “فواضل إنتخابية و أكبر البقايا” فيها مس من الإرادة الانتخابية للشعب التونسي، وزاد الطينة بلّة عدم وجود ضوابط واضحة للمترشحين، مما ساعد في وصول أشخاص إلى مجلس النواب تحيط بهم شبهات فساد.
مسؤولية كبرى على عاتق رئيس الجمهورية
إنتقال العملية السياسية إلى مرحلة “حكومة الرئيس” والتي تعني أن يكلّف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتكوين حكومة جديدة حسب الدستور التونسي جاءت لتدعّم مركز الرئيس قيس سعيّد في المشهد السياسي التونسي ليكون هو المتحكّم الرئيسي في المشهد السياسي، لكن هذا لا يخلو من ضرورة التزام الحذر فهذه المرحلة ليست سهلة، فالرئيس سوف يكون أمام تحدّ كبير لإيجاد شخصية تنال ثقة الأحزاب المشتّتة والمنقسمة على بعضها البعض من اليمين واليسار والرافضة للعمل مع بعضها البعض لغياب الثقة المتبادلة، كما أن المرحلة المقبلة سوف تعمل فيها هذه الأحزاب على الضغط على رئيس الجمهورية من خلال تكوين كتل كبيرة تكون كأمر واقع لإجبار رئيس الجمهورية على التعامل معها في تشكيل الحكومة القادمة كما قام بذلك نبيل القروي من خلال سعيه الحثيث لتكوين أكبر كتلة في البرلمان لفرض إرادته في المرحلة القادمة.
شارك رأيك