من المفروض بعد تسع سنوات من الشعارات الثورية و العكاظيات الخطابية أن تعترف النخب السياسية بالأخطاء التي ارتكبتها في حق تونس خلال هذه المرحلة الصعبة وأن تحاول الاستفادة منها وتحوّلها إلى تجارب.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
ليس لنا بعد هذه السنوات العجاف والعاصفة إلا النهوض صفا واحدا لتدارك هذا الوضع المتردّي. لم يعد هناك مجال لأي مزايدات بشعارات ثورية معلّقة في الهواء قد لا تجد أصلا وطن أو أرض تطبّق عليه.
السؤال الاستنكاري: الآن ؟
تسع سنوات من عمر الشعب التونسي جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر وفوقه وأخرى رجعت القهقرى من أمامه. سنوات طويلة واجه الشعب فيها المعاناة والعوز وغابت فيها النزاهة لتحل محلها سياسة التمكين والتلاعب بالإجراءات والسياسات لاستغلال الفرص بدوافع المصلحة الذاتية والحزبية.
لقد أصبحت الاجتماعات والمنابر بمعظمها الغالب مجرّد أسواق للكلام المجاني وبات الحوار مفردة تردّدها الألسن من كل الجهات ومن شتّى المواقع كمطيّة لتهدئة الخواط. يبدو أنه لم يعد هناك هيئة سياسية لم تتوجه بهذه المفردة إلى الهيئات الأخرى بالرغم من العنف والتجريح والتخوين والتكفير.
ولكن مهما استبدّت بالبلاد موازين القوى في التحالفات ومهما استشرست علينا دول الاصطفاف والمحاور الاخوانية فلن تيأس تونس وتستلم. هناك انطباع بأن الشعب واع لما يجري، وأنّه من الممكن إعادة صناعة وعي وطني يصعب اختراقه بشكل منهجي منظم. لقد انتاب هذا الوعي شيء من التشويه بشعارات شعبوية خداعة وبمشاريع بعيدة عن مشروعه الخاص به. هناك بوادر يقظة وطنية وحس بالمسؤولية التاريخية في هذه المرحلة الدقيقة لتهدئة النفوس ورص الصفوف للعمل والتعبير عن استحقاقات الشعب في الحياة الكريمة ومواجهة التحديات ومغالبة الصعوبات القائمة.
تونس تدفع ثمن تحضرها !
كثيرون هم الذين وظفوا شعار “الدولة المدنية” في العالم العربي، ولكنهم لم ينجحوا في إقامة مؤسسات مدنية بل تمكنوا من إحياء أيديولوجيات وإنشاء عصبيّات لها واجهات تتمثل في الأحزاب السياسية والمؤسسات التعليمية والمحطات الاعلامية… وشارك في هذا التواطؤ السياسيون والاعلاميون ورجال الأعمال لديها.
لقد استمدت الدولة لدينا شرعيتها منذ الاستقلال من نضال الشعب لتقوم على المبادئ والقيم وسيادة القانون والمؤسسات رغم بعض النقائص. وظلت بحكم ذلك مُحصّنة إلى حدّ ما ضد الأعراض الجانبية، ودفعت ولا زالت تدفع ثمن تحضرها بأقل قدر ممكن من الخسائر.
لم تسلم تونس رغم هذا التحصين من الوهم الكبير الذي عاشته الولايات المتحدة بعد ثورات 2011 والذي يقوم على الاعتقاد بإمكانية الاعتماد على التنظيمات الاسلامية كبدائل جاهزة للحكم إذا سقطت الأنظمة العربية. وهي فكرة تعود في السياسة الأمنية الأمريكية إلى حادثة 11 سبتمبر 2001 بدعوى احتواء الارهاب عبر تعزيز ما يسمى بـ” الاسلام السياسي”.
كثيرة هي الأدبيات التي تكشف مسار هذا التيار، في أكثر من 72 دولة عربية وإسلامية وغير إسلامية وفي القارات الست والذي يتّسم في أغلبه بالحذر الاستراتيجي في التعامل معه عبر الاحتواء والتوظيف أو التهميش و المنع والإقصاء.
أعلم أن أقطاب التيار الديني في تونس صرّحت في مناسبات عدّة على أنّ بناء الدولة مُقدّم على تطبيق الشريعة ولا حديث عن دولة إسلامية بل عن دولة ديمقراطية تكون السلطة فيها للشعب، هذا فضلا عن التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي. ولكن المواقف المسجلة لا تدل بشكل من الأشكال على القطيعة أو التخلّي عن تنفيذ المشروع الذي يحملونه انطلاقا من الأسفل.
لا يوجد لدينا في النصوص والمراجع وفي طليعتها الدستور ما يدفع إلى تغليب الصفة الدينية للدولة على حساب النظام السياسي المدني. هناك حاجة لحماية الدولة ومكتسباتها من تناقض ممارسات الاسلام السياسي مع سياساتها ورؤيتها للمسار العام وخاصة على مستوى المواطنة كسمة رئيسية في علاقة الدولة بالفرد والجماعات.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك