هل يكون المؤتمر القادم لحركة النهضة المقرر لشهر ماي 2020 – هذا إذا لم يتم ترحيله إلى أجل غير مسمّى – مؤتمر الانفجار لتشهد الحركة الاسلامية نفس مصير الأحزاب الأخرى خاصة أن هذا المؤتمر غير عادي بحكم أنه سيكون مخصصا لخلافة شخصية غير عادية ونعني المؤسس الشيخ راشد الغنوشي الذي طالما كان يمثّل الشجرة الكبيرة التي تخفي غابة الخلافات بين الإسلاميين في تونس ؟
بقلم فيروز الشاذلي
عندما استذكر المرحوم الباجي قائد السبسي أبيات الشاعر طرفة بن العبد في خلافه مع حركة النهضة “يا لكِ مِن قُبّرَة بمعمرِ خلالكِ الجوّ فبيضي و اصفرِي قد رُفِع الفخُّ ،فماذا تَحذري ؟ ونقّري ما شئتِ أن تنقّري قد ذهب الصيّادُ عنكِ “لم يسعفه القدر قبل أن يرى بقية بيت الشعر الثالث تتحقّق وهي “فابشِرِي، لا بدّ يوماً أن تُصَادِي فاصبري”.
يبدو كذلك أن حركة النهضة بحكم كِبر قيادتها السياسية وعدم واقعيتها اكتفت بالاستدلال بالجزء الأول فقط من البيت وظنّت ولو لوهلة أنها سوف تبِيض وتُفرِّخ إلى مالا نهاية متناسية إرادة الشعب التونسي وتناست الجزء الثاني لتجد نفسها، بعد أن كانت اللاعب الأول في المشهد السياسي والفائز الأول في الانتخابات التشريعية، مجرّد حزب بين الفسيفساء الحزبية الموجودة تعاني تبعات سقوط حكومتها لتجد نفسها تنكفئ على ذاتها للملمة خلافاتها الداخلية المتفاقمة يوما بعد يوم خاصة بعد العدد المعتبر للاستقالات الأخيرة و المنذرة بشبح الانقسام الكبير قُبَيل مؤتمرها القادم لخلافة الأب الروحي للحركة الشيخ راشد الغنوشي، فهل تتجرّع الحركة من نفس كأس سمّ الانقسام و التشتّت كما حصل مع الأحزاب السياسية الأخرى؟ أو تسعفها عوامل أخرى تتميّز بها الحركة الإسلامية التونسية كالمرونة في تقبّل الصدمات و الهزائم السياسية وخاصة العامل العقائدي؟
الحركة على وقع خلافاتها الداخلية
عندما أقدم الأمين العام السابق للحركة حمادي الجبالي على الاستقالة و الابتعاد عن جميع الأنشطة داخل الحزب، اعتبر العديد من المحللين السياسيين أن هذه الاستقالة هي مجرّد حالة شاذة لحزب عقائدي متماسك ولا يمكن قياس تأثير هذا الأمر بما يجري داخل الأحزاب الأخرى، ولكن مع مرور الأيام تثبت لنا السياسة أن رياحها لا تقف أمامها لا القلاع الحصينة التي حاول الغنوشي بناءها حول الحزب و لا مناوراته إزاء تقلبات المشهد السياسي المعقّد بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة فسقوط حكومة الجملي بهذا الشكل الدراماتيكي قد أحيا لهب الخلافات داخل الحركة من تحت الرماد.
اختيار الغنوشي لشخصية الجملي المقرّبة من الحركة لترؤس الحكومة القادمةلم يفلح في إرضاء أي من الشِقَّين في النهضة سواءا الشق المطالب بأحقية الحركة في تسمية شخصية من داخلها وهو تيّار مسيطر على مجلس شورى الحركة أو الشق الثاني المطالب بتسمية شخصية مستقلة من التكنوقراط.
أما على مستوى الأحزاب الأخرى فقد جابهت الحركة رفضا كبيرا لهذه الشخصية كونها محسوبة على النهضة، فمن منطلق هذا الاختيار الذي أراد من خلاله الغنوشي إرضاء جميع الأطراف كما دأبت العادة في بيع المواقف السياسية تجاه الكل وجد نفسه هذه المرّة يخسر دعم الكل فاستقال الأمين العام للحركة زياد العذاري من جميع مناصبه داخل الحزب قبل عرض الحكومة على ثقة البرلمان ثم توالت الاستقالات بعد سقوط الحكومة كاستقالة القيادي بمجلس شورى الحركة زياد بومخلة وهشام العريّض نجل القيادي البارز علي العريّض في شكل رسالة احتجاجية على مسار أخذ القرارات بالحزب.
هذه الاستقالات وسعّت بشكل كبير في دائرة الغاضبين و المستبعدين من الحركة إذا أضفنا لهم أسماء بارزة مستقيلة سابقا كلطفي زيتون ورئيس مكتب الغنوشي في “مونبليزير” السيد زبير الشهودي مع بروز جبهة مناهضة لسياسة الغنوشي في تسيير الحركة يتزعمها كل من عبد اللطيف المكي و محمد بن سالم، حيث كان واضحا هذا الأخير في التعبير عن عدم رضاه عن سياسة الغنوشي في تحييد العديد من قيادات الحركة المختلفة معه في الرأي.
شعور الحركة بالضعف و الاستهداف السياسي
هذا الشعور بالاستهداف و القلق العميق من تراجع التأثير و الوزن السياسي للحركة كان جليّا بالبيان الأخير للحركة حول تشكيل الحكومة القادمة و تعيين الشخصية المكلفة من قبل رئيس الجمهورية فقد كان البيان في جُلّه موجّها لشخص رئيس الجمهورية مع تكرار كلمة “الثقة في شخص رئيس الجمهورية” أكثر من مرّة بما يوحي بوجود قلق عميق لدى الحركة لسببين مهمين أوّلهما أنها فقدت زمام المبادرة باعتبارها لم تعد صاحبة الكلمة الأولى في صياغة التوليفة الحكومية وثانيها أنها أصبحت مرتهنة بما ستؤول له قرارات رئيس الجمهورية في مشاوراته ورؤيته السياسية التي لم تتبيّنها الحركة على أرض الواقع بل كل ما رأته هو ضبابية في مواقف رئيس الجمهورية و في أغلب خطاباته كان ينتقد عبث الأحزاب السياسية المنتمية لمنظومة الحكم.
تضييع الحركة للمهلة الدستورية الأولى والثانية لتشكيل الحكومة ثم المرور إلى المرحلة الدستورية الثالثة من خلال تعيين شخصية من قبل رئيس الجمهورية أصبح معها الفوز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الماضية من قَبِيل الماضي وبدون أي معنى أو مفعول سياسي لأن حكومة الرئيس تعني أن الحكم داخل البرلمان للكتل الأكبر فتنتفي الأحزاب أمام الكتل التي تفرض على رئيس الدولة ورئيس الحكومة القادم التعامل معها نظرا لحجمها وهذا ما تعمل عليه أحزاب كقلب تونس وتحيا تونس وكتلة المستقبل و الإصلاح الباحثة كلّها عن تكوين كتلة برلمانية كبيرة تكون في مضاهاة كتلة النهضة و الكتلة الديمقراطية.
من جهة أخرى يتبيّن لنا بكل وضوح أن السياسة التي انتهجتها الحركة بتدبير الشيخ راشد الغنوشي بعد الفوز بالانتخابات التشريعية أدّت في نهاية المطاف إلى تجميع جميع خصومها داخل البرلمان فكل الكتل السياسية أصبح هدفها المشروع هو تقزيم الدور السياسي لحركة النهضة وهذا ما كان واضحا في الجلسة العامة الأخيرة التي تحوّلت إلى ما يشبه مساءلة ومحاكمة لرئيس المجلس النيابي راشد الخريجي الغنوشي على خلفية زيارته الأخيرة لتركيا حيث لم تتوارى أي كتلة في حشر الغنوشي في الزاوية الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه.
هذه التغيرات التي بدأت تنضج على مستوى هيكلة الكتل النيابية سوف تتدعّم بعد تأليف الحكومة القادمة و إن كانت كتلة الدستوري الحر بقيادة عبير موسي قد نادت منذ البداية بإسقاط الغنوشي من رئاسة البرلمان فإن التحالفات التي سوف تنشأ بين بقية الكتل بعد إقرار الحكومة الجديدة يمكن أن تكون لها كلمة أخرى بخصوص رئاسة الغنوشي للبرلمان وفي جميع الأحوال سواءا قدّمت لائحة سحب ثقة من الغنوشي أو لا فإن هذا الأخير سوف يبقى تحت الضغط السياسي وتحت رحمة اللعبة السياسية التي قد لا تجلب رياحا مثلما تشتهي سفن مونبليزير.
الوقت يداهم الحركة قبل مؤتمرها الانتخابي
بهذه الوضعية المثقلة بالخلافات الداخلية و انحسار المد السياسي للحركة فهي ذاهبة بلا شك إلى مؤتمر الانفجار لتشهد نفس مصير الأحزاب الأخرى خاصة أن هذا المؤتمر غير عادي بحكم أنه سيكون مخصصا لخلافة شخصية غير عادية ونعني المؤسس الشيخ راشد الغنوشي الذي طالما كان يمثّل الشجرة الكبيرة التي تخفي غابة الخلافات داخل الحركة وهو ما يحتّم على الحركة وقياداتها الدخول في فترة مراجعات للأسباب الحقيقية لهذه الخلافات المتفاقمة التي أصبحت تهدّد جديا بانقسام الحركة وذلك قبل انعقاد المؤتمر الذي يبدو أن تاريخه سوف يتم ترحيله إلى أجل غير مسمّى على الأقل حتى مرور هذه الموجة العاتية من الخلافات داخل الحركة.
شارك رأيك