يحتفل التونسيون اليوم بذكرى يوم حزين من تاريخهم المعاصر وهو يوم 26 جانفي 1978 المعروف ب”الخميس الأسود” و لكل من عاش ذلك اليوم ذكريات مؤلمة لا تنسي ومن بينهم كاتب هذا المقال الذي يعود بنا 41 عاما إلى الوراء.
بقلم مصطفى عطية *
كنت في ذاك الصباح الشتائي القارس من يوم الخميس السادس والعشرين من شهر جانفي 1978 أستعد لمغادرة شقتي الكائنة بأحد الأزقة الملتوية ذات البناءات الرمادية والأبواب المسمرة والشبابيك المحدبة والمتفرعة عن شارع غانا وسط العاصمة للإلتحاق بمقر جريدة “بلادي” في ساحة عشرين مارس 1934 بالقصبة حيث كنت أعمل مشرفا على الملحق الثقافي الذي تضم أسرة تحريره كبار كتاب وأدباء ذاك الزمن أمثال محمد العروسي المطوي ومحمد صالح الجابري ومصطفى الفارسي رحمهم الله والدكتور الحبيب الجنحاني والشاعر محمد مصمولي، مع مواصلة تعليمي الجامعي في السنة النهائية من قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
غيوم داكنة تنبئ بما لا يحمد عقباه
لم أكن قد غادرت العمارة عندما تسمر أحد أصداقي في بهوها وهو يعلمني بخبر إعتقال شقيقي بوراوي الناشط النقابي في قطاع التربية ومراسل جريدة “الشعب” لسان الإتحاد العام التونسي للشغل بسوسة.
كانت البلاد في إضراب عام وقد بلغ الإحتقان ذروة درجاته الدرامية، وخيمت غيوم داكنة تنبئ بما لا يحمد عقباه. بدا الشارع الطويل الذي دلفت إليه صامتا ومثقلا بالهموم وكأنه يعيش مخاضا عسيرا ومكبوتا، وعلت وجوه المارة علامات الخوف والتوجس وهم يشاهدون قوات الأمن تتمركز في العديد من المناطق الإسترتيجية، ومجموعات مدججة بالهراوات تجوب الأنهج وهي تردد شعارات داعمة للنظام والحزب الحاكم والرئيس بورقيبة.
كان المطر ينزل رذاذا والبرد يلفح الوجوه وقد تراكمت الغيوم في السماء وكأنها توحي بما في القلوب المكلومة.
عندما دخلت مكتبي في مقر الجريدة سارعت برفع سماعة الهاتف لمخاطبة والدتي رحمها الله، للتأكد من صحة خبر إعتقال شقيقي بوراوي فوجدتها ملتاعة ولكنها فخورة مؤكدة لي أن نساء الحي إحتشدن في منزلنا تضامنا وسوف يلتحقن بمقر الإتحاد الجهوي للشغل بسوسة للمشاركة في المظاهرة الشعبية الكبرى .
عندما أطل الحبيب عاشور من شرفة مقر الإتحاد
في مقر الجريدة بدأت مجموعات صغيرة من الصحفيين والموظفين والفنيين والعملة تتشكل في الأروقة والمكاتب للحديث عن الأوضاع المتفجرة في البلاد، ووضع السيناريوهات المحتملة لمواجهة التطورات، وكان العديد من عمال الإستقبال والتنظيف والحراسة قد تسلحوا بالهراوات بعد أن تناهى إلى مسامعهم أن المتظاهرين عازمون على اقتحام مقر الحزب الإشتراكي الدستوري حيث مقر الجريدة.
عندما أطل الحبيب عاشور من شرفة مقر الإتحاد العام التونسي للشغل مهددا بإضرام حريق في البلاد أمر الرئيس الحبيب بورقيبة بإيقافه فورا لتتحول الإحتجاجات إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن. وبقية الحكاية مرسومة في ذاكرة النقابيين ومكتوبة في كتب التاريخ…
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك