تصريحات رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ تؤكد حرصه على التغيير الجدي في السياسات العامة و إرساء الأسس المؤسساتية للدولة العادلة و القوية، كما نستشف منها إرادة صادقة لمراجعة النظام السياسي و التوازنات و أساليب إدارة الحكم في أعلى هرم السلطة و كذلك إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية وفقا لرؤية رئيس الدولة.
بقلم أحمد بن مصطفى *
تركزت الندوة الصحفية التي عقدها المكلف بتشكيل الحكومة الياس الفخفاخ بتاريخ 24 جانفي 2020 على توضيح الأسس والقواعد المبدئية التي سيتم اعتمادها في تشكيل الحكومة واعداد برنامج عملها واختيار الأطراف السياسية المزمع اشراكها في إدارة الشأن العام، ولم يخف أن هذه المرتكزات تعكس مقاربة جديدة للحكم تنطلق من الرغبة في تحقيق الانسجام بين رأسي السلطة التنفيذية والتنسيق فيما بينهما لمواجهة التحديات المحلية والإقليمية وللاستجابة لتطلعات القاعدة الانتخابية العريضة التي أوصلت الرئيس قيس سعيد الى رئاسة الجمهورية.
ومن هذا المنطلق، أكد أنه يستمد شرعيته من شرعية الرئيس ومن الانحياز الى انتظارات الشعب والوفاء الى أهداف الثورة موضحا انه بناء على هذا الخيار تم استبعاد حزبي قلب تونس والدستوري الحر من مشاورات تشكيل الحكومة ملمحا الى انه ليس ملزما بمواصلة سياسة “التوافق” بل سيعمل على توسيع الحزام السياسي للحكومة الى القوى المؤمنة بهذه التوجهات والمستعدة للمساهمة في تجسيدها.
ضمان تحقيق الاستقرار السياسي الذي تفتقر اليه تونس
واضاف ان الهدف الأسمى لهذا التمشي الجديد هو ضمان تحقيق الاستقرار السياسي الذي ظلت تفتقر اليه تونس منذ الثورة مما انعكس سلبا على أداء الحكومات العديدة المتعاقبة وأفرز مناخا من انعدام الثقة بين الشعب والطبقة السياسية عموما مما يقتضي أخلقة الحياة السياسية وعقلنتها لجعلها قائمة على منظومة قيمية يستند اليها فريق حكومي مصغر منحاز لأهداف وقيم الثورة والانتقال الديمقراطي معتبرا أن توفر هذه الأساسيات هو الكفيل بتهيئة الظروف الملائمة لجعل الحكومة قادرة على تحقيق أولوية الانتقال الاقتصادي المنشود الذي طال انتظاره و ذلك بناء على برنامج حكومي متكامل للتغيير و الإصلاح و مقاومة الفساد يقع التوافق مع الشركاء حول مضامينه و سبل إنجازه.
ان المتعن في مضامين هذا الخطاب والرسائل العلنية والمبطنة الواردة فيه و ما سبقه من تصريحات بخصوص الحرص على التغيير الجدي في السياسات العامة و إرساء الأسس المؤسساتية للدولة العادلة و القوية، يستشف بأن مراجعة النظام السياسي و التوازنات و أساليب إدارة الحكم في أعلى هرم السلطة و كذلك إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية وفقا للرؤية الرئاسية قد يتصدر أولويات الحكومة القادمة وهو ما تؤكده أيضا أجوبة رئيس الحكومة المكلف على أسئلة الصحافيين حول ملامح الانتقال السياسي و الاقتصادي المنشود و شروط تحقيقه و إنجازه على ارض الواقع.
وسنحاول فيما يلي استشراف مدى توفر المحيط المحلي والدولي الملائم لتحقيق هذه الأهداف أخذا بعين الاعتبار الدور المحوري الذي ما انفكت تلعبه منذ عقود طويلة الأطراف الخارجية ذات المصلحة وحلفاؤها المحليون في نحت المشهد السياسي التونسي وما يتصل به من خيارات وتوجهات استراتيجية كبرى خاصة في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والتأطير القانوني لعلاقات التعاون والشراكة بين تونس وشركائها الخارجيين.
مراجعة النظام السياسي التونسي أو إعادة تشكيل التوازنات في اعلى هرم السلطة؟
المعلوم ان الرئيس قيس سعيد يحمل رؤية نقدية لاذعة للنظام السياسي الحالي الذي أفرزه دستور 2014 ويعتبر انه وضع على المقاس لإجهاض الثورة وتأبيد سيطرة اللوبيات المتنفذة للنظام السابق وتفرعاتها على دواليب السلطة حتى يتسنى لها الحفاظ على المنوال الاقتصادي الموغل في الليبيرالية المتوحشة المدعوم من الخارج الذي يخدم مصالحها والقائم على إدماج تونس القسري في الاتحاد الأوروبي من خلال إقحامها في العولمة التجارية غير المتكافئة. ومن هذا المنطلق جاءت اقتراحاته المثيرة للجدل حول إرساء نوع من الديمقراطية المباشرة من خلال تعديل الدستور في بنوده المتعلقة بسبل انتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب وكيفية مراقبتهم وعزلهم مباشرة من الجهات إذا خالفوا السياسات والمشاريع الاقتصادية المقررة محليا.
وازدادت مخاوف الأوساط المتنفذة في السلطة وحلفائها الجدد من الأطراف السياسية الرئيسية في الحكومات المتعاقبة بعد الثورة من الاختراق الانتخابي الذي حققه الرئيس سعيد واكتسابه قاعدة انتخابية واسعة ووازنة دون الاعتماد على المنظومة القائمة ووسائلها الدعائية واساليبها الملتوية للوصول الى الحكم.
ولا شك في ان فشل حركة النهضة في تمرير حكومة الجملي عزز من الدور الدستوري لرئيس الجمهورية في نحت المشهد السياسي المستقبلي وفقا لرؤاه مستندا في ذلك الى سلطاتة الدستورية والمعنوية المستمدة من قواعده الانتخابية التي يحرص على استمرارية التواصل معها من خلال زياراته المتكررة الى الجهات.
وإذا توفق رئيس الحكومة المكلف في بناء الحزام السياسي الذي سيمكنه من نيل ثقة مجلس نواب الشعب، فان الرئيس سيكون قد حقق خطوة هامة باتجاه إيجاد توازنات جديدة تجعله قادرا على إدارة اللعبة السياسية دون حاجة لطرح قضية تعديل الدستور في هذه المرحلة سيما وأنها تصطدم بإشكاليات كبرى سياسيا ودستوريا.
مراجعة السياسة الاقتصادية يرتبط بإعادة النظر في علاقات الشراكة المختلة مع الاتحاد الاوروبي
لا شك ان معالجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي لتونس، بما يتسم به من توازنات مالية منهارة ومديونية منفلتة وخارجة عن السيطرة فضلا عن العجز التجاري وميزان الدفوعات الذين تجاوزا كافة الخطوط الحمر، يقتضي مراجعة جذرية للسياسة الاقتصادية التي أكد المكلف بتشكيل الحكومة انها من ضمن أولوياته. غير انه لم يتطرق الى جذور هذه الأزمة المرتبطة شديد الارتباط بعلاقات تونس المختلة مع الغرب وتحديدا مع الاتحاد الأوروبي وبالذات مع شركائنا الرئيسيين المنضوين بمجموعة السبع للدول الصناعية وعلى راسهم فرنسا.
لا داعي للتذكير بما سبق لنا التعرض اليه عديد المرات بخصوص تواطئ حكومات ما بعد الثورة مع هذه المجموعة التي تحركت بسرعة من خلال مؤتمرها المنعقد بدوفيل الفرنسية في ماي 2011 للحيلولة دون مراجعة تونس للسياسات الاقتصادية للنظام السابق واتفاقيات التبادل الحر المختلة ذات الصلة، بل لفرض مزيد التوسع فيها من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق فضلا عن إلزام تونس بدفع مديونية النظام السابق واغراقها بمزيد القروض الكريهة المخصصة أساسا لخدمة الديون القديمة وتحويل أرباح المستثمرين الاجانب.
وقد جرى تمرير جل بنود الآليكا في القوانين التونسية من قبل حكومة الشاهد تحت غطاء المفوضات المزعومة و المغشوشة مع الاتحاد الأوروبي وذلك دون أدني مقابل سوى مزيد إغراق تونس في مديونية عدمية وحالة شبه إفلاس غير معلن مرتبطة في جانب كبير منها بما يسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي مما كرس تبعية تونس المالية الخانقة إزاء الخارج وأفقدها استقلالية قرارها وجعلها غير قادرة على الصمود امام الضغوط الأوروبية الغربية التي تدفعها للتفريط في ما تبقى من مؤسساتها ومرافقها العمومية فضلا عن ثرواتها الطبيعية و الباطنية المنهوبة و المهدورة بما فيها الطاقات المتجددة التي تم التفريط فيها بصفقات طويلة الأمد ابرمت أساسا مع شركات المانية و فرنسية.
وفي المقابل أهملت كافة حكومات ما بعد الثورة متابعة وعود مجموعة السبع بتمكين تونس من استرداد أموالها وأملاكها المنهوبة المهربة الى الخارج بل ان حجم هذه السرقات تضاعف منذ الثورة وهو في تزايد مستمر نتيجة التواطؤ الرسمي الذي بلغ درجة قيام حكومة الشاهد بطلب رفع التحجير الأوروبي على أموال مروان المبروك التي كانت ضمن الأموال المهربة المجمدة لفائدة الدولة التونسية.
وعلى صعيد متصل لا بد من التذكير باتفاق “شراكة التنقل” الممضى من قبل حكومة المهدي جمعة سنة 2014 الذي كرس الهجرة الانتقائية لفائدة أوروبا وحول تونس فعليا الى دولة طاردة لكفاءاتها وثرواتها البشرية مثلما حولها الى دولة لجوء للهجرة الافريقية الوافدة أساسا من جنوب الصحراء ومن ليبيا مع الإشارة الى ان المفوضية السامية للاجئين هي التي تمنح حق اللجوء الى الأراضي التونسية وهو أمر خطير ويمس بالسيادة الوطنية خاصة وانه لا يوجد قانون تونسي ينظم منح حق اللجوء الى الأراضي التونسية.
خلاصة القول ان الحكومة القادمة ورئاسة الجمهورية مدعوتان للانكباب على معالجة هذه الاخلالات في علاقاتنا الخارجية كأولوية مطلقة حتى يتسنى لتونس السيطرة على ثرواتها ومقدراتها المادية والبشرية واسترداد قرارها السيادي في تحديد خياراتها الاستراتيجية والدبلوماسية الكبرى وفي رسم السياسات الاقتصادية المتطابقة مع مقتضيات دستورها بما يستجيب لتطلعات الشعب التونسي واهداف الثورة.
وفي هذا السياق يمكن لتونس، بعد تركيز الحكومة الجديدة، وفي إطار التنسيق والتعاون مع الدول العربية والافريقية، القيام بعدة خطوات ومبادرات دبلوماسية عاجلة وآجلة تتلاءم مع حجم و خطورة التهديدات الأمنية و الاقتصادية المحيطة بتونس من قبيل الحرب الاهلية بليبيا والتدخلات الأجنبية التي حولت المتوسط الى بؤرة للصراعات وعدم الاستقرار فضلا عن صفقة تصفية القضية الفلسطينية مما يحتم السعي الى ايجاد إطار استراتيجي جديد – على غرار مسار برشلونة ولكنه نابع من الضفة الجنوبية للمتوسط – و ذلك يهدف اعادة بناء العلاقات شمال جنوب والتعاون التونسي الأوروبي على أسس جديدة أكثر توازنا وعدلا و انصافا.
يبقى ان نشير الى ان تونس رغم ضعف موقفها التفاوضي ودقة اوضاعها الاقتصادية والسياسية، فإنها قادرة، في إطار الاتفاقيات القائمة وعملا بدستورها الجديد، ان تتخذ العديد من الخطوات الآنية المعبرة عن ارادتها لاسترجاع مقومات سيادتها والدفاع عن مصالحها ومنها إعادة ملف التعاون الدولي علاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الى وزارة الخارجية وتفعيل البنود الوقائية لاتفاق 1995 التي تسمح بإعادة توظيف الرسوم الديوانية بصفة مؤقتة وتفعيل البنود الاقتصادية والاجتماعية للدستور المتعارضة نصا وروحا مع اتفاق الآليكا.
كما يمكن لتونس ان تقوم بتدقيق داخلي للمديونية لمعرفة أوجه صرفها الخارجة عن سيطرتنا الى جانب إعادة تفعيل الحوار الاستراتيجي الذي شرع فية سنة 2017 لبحث مستقبل العلاقات التونسية الأوروبية علما ان تونس طلبت رسميا الخروج من سياسة الجوار والتفاوض على اتفاق جديد أكثر ملائمة مع خصوصياتها الاقتصادية ومتطلباتها التنموية.
* باحث في القضايا الدبلوماسية و الاستراتيجية.
شارك رأيك