ما هي الأسباب الموجبة لطرح موضوع “البراكاج” أو السطو القديم نسبيا في مقال جديد؟ ألا يكفي هذا الكم من المحلّلين والمتدخّلين الذين تحدثوا عن السطو بكل جوانبه حتى يظهر رأي آخر يعالج جانبا مطروحا من قضية شغلت الرأي العام وما زالت تشغله؟
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
تلك بعض الأسئلة التي طرحتها على نفسي وأنا أستعد لكتابة هذا المقال. ولكن الاهتمام بالسطو يعني اهتماما بمجال الأمن بتونس وهو مجال واسع ومترابط يمتد من تعزيز سلطة الدولة وترسيخ حكم القانون إلى استنباط قواعد ومعايير عامة تنظم علاقات الأفراد وسلوكهم وتؤسس لاستقرار نظام اجتماعي متين.
الظاهرة نتاج تآكل المجتمع من الداخل
لقد أصبحت لفظة “البراكاج” في البلاد من شمالها إلى جنوبها مرادفة للفظة “الخوف”، وكذلك للفظة “الانفلات”. لاشك أنّ هذه الظاهرة لها أسبابها الاجتماعية التي هي في نظرنا هي جزء من التخبط والفوضى السياسية والأخلاقية التي تعيشها البلاد. و لاشك أنّ هناك أصواتا ضعيفة ولكنها موجودة في المباشرين من الأمنيين، تتوخى عرض الصورة الحقيقية لمسألة “البراكاجات” وغيرها من القضايا الأمنية، لكنها ضائعة في خضم الأصوات العالية من الخبراء المزعومين. و كذلك لا شك أنّ هناك أصواتا جديدة في المراكز البحثية تحاول جاهدة لفت اهتمام السلطة لجدوى الأبحاث العلمية لفهم هذه الظاهرة وغيرها ورسم صورة واضحة ومترابطة عنها وعن تأثيراتها في إطار من الموضوعية.
هناك إدراك حقيقي لدى المهتمين بالشأن العام من أنّ إحداث أي تغيير في هذا الموضوع وغيره من المواضيع الأمنية يحتاج إلى إرادة سياسية قبل أي شيء وقناعة راسخة بخطورة الوضع.
هناك عوامل شكلت أساسا لانتشار هذا الفلتان الأمني. ويبدو أن التركيز على الجانب السياسي هذه السنوات مع غياب أو ضعف قوى المجتمع المدني وارباك قوات الأمن الداخلي كانت أسبابا أساسية في تآكل المجتمع من الداخل حيث عمدت الكيانات السياسية والنقابية الى اسقطاب المواطنين كل إلى حظيرته على حساب الأمن العام والسلم المجتمعي برمّته. إنّ هذه القضية هي قضية سياسية قبل أن تكون أمنية، تحتاج إلى رؤية شاملة وشراكة حقيقية.
لا أحد يستطيع أن ينكر أنّنا نواجه ظواهر تهدّد مُقومات الدولة ووحدة المجتمع التونسي و التي لا تتمثل فقط في عصابات الاجرام والانحراف المتعددة الاختصاصات بل وأيضا فيما أفرزه واقعنا من لوبيات الوصاية والرعاية، وعصابات استغلال النفوذ الوظيفي والسماسرة وتجار السوق السوداء أو الموازية.
فالحديث عن الديمقراطية والحقوق الشاملة بشكل مُسقط لا يغيّر شيئا في منطق العصابات تجاه الجريمة بأنواعها، ولا في قناعات اللوبيات المتسلطة للحصول على الامتيازات والإعفاءات والدعم المالي والمكاسب لهم ولأسرهم أو لأصدقائهم فحسب. لا يوجد نقد صريح بالمعنى الحقيقي للكلمة للواقع الأمني، فالنقد علم وكل ما نقرأه لا يعدو كونه انطباعا.
الحاجة لمقاربة شاملة لمفهوم الأمن
لقد تحولت “الثورجة” إلى خطر يلتهم روح الدولة ومعاني وجودها، و يغذّي المخاوف والشكوك والتوترات المتنوعة لدى المجتمع ويدفع به نحو المواجهات الكامنة. هناك حاجة لتبني مقاربة شاملة جديدة لمفهوم الامن تقوم على المعرفة و الخبرة وتجسيد التعاون الفعلي والمستمر مع القضاء.
لقد استبعد فرنسيس فوكوياما عودة “العصبية” بشكل كامل إلى المجتمع الحديث في كتابه المرجعي “النظام السياسي والانحطاط السياسي”، ولكنه أكّد على خطورة ظهور هذه “النزعات الجديدة” التي تؤدي حتما الى انتشار الجريمة والفساد وتدفع الدوائر الحكومية إلى مستويات متدنية من الفاعلية، وتغذّي ردود الفعل الشعبوية.
يبدو وأنّ البلاد أصبحت ساحة يلعب فيها الجميع ومفتوحة على خطوط داخلية وخارجية مستغلة الوضع الداخلي المهتز ويأس التونسيين من الخروج من النفق. إنّ تعزيز الأمن لا يمكن أن يأتي من الخارج ولجانه وخبرائه ومُخابراته بل من داخل البلاد من خلال معالجة الإخلالات الوظيفية في السياسة. لقد شكرنا الغرب (بين ظفرين) على نجاح تجربتنا في الانتقال الديمقراطي ولكن هذا الشكر لم يساعدنا على معالجة الاشكالية الجوهرية ضعف الدولة – أي السلطة القوية – التي تحتكر القوة الشرعية على التراب الوطني للحفاظ على الأمن وتطبيق القانون.
يمكن الرجوع إلى التقرير عدد 100 (2013-2014)، المتعلق بالسياسة المتوسطية للإتحاد الأوروبي بعد الربيع العربي، والصادر عن لجنة الشؤون الأوروبية بتاريخ 24 أكتوبر2013 والذي ينص على “أنّ الاتحاد الأوروبي تعامل مع فضاء المغرب العربي بعد 2011 بنظرة مغايرة لما كان سائدا من قبل، ويبدو أنّ إدراكا استراتيجيا قد تشكّل في الضفة الشمالية للمتوسط مفاده أنّ الابقاء على الوضع القائم هو أفضل سيناريو للمحافظة على الوضع السياسي والأمني بالمنطقة، فباستثناء الحالة الليبية، حافظ الاتحاد الأوروبي على موقف لا تدخلي سواء في مسار التحول الديمقراطي في تونس، أوفي عملية الاصلاحات السياسية في كل من المغرب والجزائر، والأكثر أهمية هو موقفه من نزاع الصحراء الغربية”.
أسئلة كثيرة لازالت تبحث عن أجوبة مثل : كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟
* ضابط سابق في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك