تعددت التصريحات الملتهبة للقيادي البارز في حركة النهضة ووزيرها القوي في حكومتي الترويكا، عبد اللطيف المكي، وأخذت هذه التصريحات نسقا تصاعديا مضطرما منذ إنعقاد المؤتمر العاشر للحركة عام 2016 لتصل الآن إلى ما يشبه المواجهة المباشرة بينه وبين راشد الغنوشي والمحيطين به من دعاة التغيير والإصلاح.
بقلم مصطفي عطية *
مازال المتابعون للشأن التونسي بالداخل والخارج يتذكرون تصريحه الناري لإحدى المحطات الإذاعية الخاصة في مطلع السنة الفارطة عندما اتهم الغنوشي ب”ضرب المسألتين الأخلاقية والديمقراطية”، وها هو يواصل إنتقاداته لزعيم الحركة وسياساته بشكل يكاد يكون يوميا مستقطبا بذلك العديد من المساندين لمواقفه داخل النهضة وخارجها.
الفتى المشاكس ومضرم الحرائق
عرف عبد اللطيف المكي ، منذ إنتمائه المبكر للحركة الإسلامية ، بمواقفه الجريئة والصادمة أحيانا، وكان المؤطرون له في تلك الفترة ، ومن بينهم راشد الغنوشي، يكبرون فيه جرأته وٱندفاعه وحتى تحليقه خارج السرب أحيانا، بل أنهم شجعوه على مواصلة طريق إضرام لهيب المواجهات التي كانت تعطي حركية للتنظيم الناشئ. ويروي بعض إخوانه الذين نشطوا معه وخبروه طويلا داخل الحركة وخارجها أنه كلما طفت مسألة عويصة أو حرجة إلا وكلف عبد اللطيف المكي بإثارتها، إلى درجة أصبح فيها يوصف ب:” مضرم النيران”، العدوة والصديقة على حد سواء!!!
كان راشد الغنوشي يعتمد عليه كثيرا في إنجاز عدة مهام خلال فترة العمل السري فيتقنها بشكل بدعو إلى الإعجاب والإنبهار، فتوطدت العلاقة بينهما ليصبح “الفتى المشاكس” أحد أهم أعضاد الشيخ بل يده الطولى في الحركة، لا يترك للبقية، سواء من الجيل الأول أمثال الصادق شورو والحبيب اللوز، أو من الجيل الثاني كحمادي الجبالي وعلي العريض، مجالا للمناورة وتوسيع دائرة نفوذهم، لكنه كان في المقابل حريصا شديد الحرص على تشجيع أبناء جيله، وخاصة المندفعين أمثاله، مثل العجمي الوريمي وعبد الحميد الجلاصي وسمير ديلو على التموقع في الصفوف الأمامية وكأنه سيتشرف الآتي ويهيء له.
لم تغير سنوات الجمر من طبعه، إذ بقي ذاك الفتى المسكون بالمشاكسة وإثارة الجدال وإضرام لهيب الحوار حول المسائل الجوهرية وخاصة تلك التي تتعلق بعمل الحركة وأنشطتها الدعوية والسياسية وعلاقاتها الفكرية والإيديولوجية مع التنظبمات المماثلة في الخارج، وقد كلفته مواقفه هذه تصنيفا ضمن “المتشددين” بل إعتبره الكثيرون، داخل الحركة وخارجها، زعيما للتيار المحافظ والمتشدد.
كان بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011 في مقدمة الذين زحفوا على وسائل الإعلام، مع نور الدين البحيري وسمير ديلو وعماد الحمامي وغيرهم، لتثبيت موقع الحركة في المشهد السياسي الجديد وتمكنوا، في فترة وجيزة، من تحقيق الهدف الذي رموا إلى تحقيقه، مما أهله والمشاركين في هذه الحملة الإعلامية للحصول على حقائب وزارية هامة في حكومتي الترويكا بنسختيها الأول والثانية برئاسة حركة النهضة ومشاركة حليفيها “المندثرين”، التكتل بزعامة مصطفى بن جعفر والمؤتمر برئاسة منصف المرزوفي، والذين لم يكن عبد اللطيف المكي يكن لهما “جميل العواطف” بل كان من القلائل في صلب الحركة الذين شككوا، منذ البداية، في جدوى التحالف معهما بل عارض دعم الحركة للمنصف المرزوقي في الإنتخابات الرئاسية مصرحا بأن “المرزوقي لا يستطيع إدارة قن دجاج”.
من وقتها أصبح عبد اللطيف المكي مصدر قلق وإحراج لبقية قياديي الحركة وعلى رأسهم راشد الغنوشي، وقد زاد مروره بوزارة الصحة وحرصه على تنفيذ برنامجه الخاص في تثبيت موقعه ك”خارج عن السرب”.
الدابة السوداء لراشد الغنوشي
كان معارضا للكثير من السياسات المتبعة في حكومة حمادي الجبالي وخاصة في تعاملها المرتجل مع عملية إغتيال شكري بلعيد وكان ضد إستقالة الحكومة في تلك الفترة، كما رفص مهادنة النقابات، وبرز تشدده بوضوح في موقفه من إعتصام الرحيل، وكان رضوخ النهضة لمطالب المعتصمين، القطرة التي أفاضت كأس صبره، فٱندفع متزعما التيار المحافظ والمتشدد، ليصبح “الدابة السوداء” لراشد الغنوشي وأتباعه ممن يوصفون ب”المعتدلين”، كعبد الفتاح مورو لطفي وزيتون ورفيق عبد السلام وعماد الحمامي، رافضا كل “التنازلات”، معتبرا إياها تفريطا في مكاسب الحركة وٱستخفافا بنضالات مؤسسيها !
وبعد أشهر عديدة من إلتحاف هذا الصراع بأردية السرية وبقائه في كواليس الأسرار، خرج، شيئا فشيئا إلى العلن حتى نشر على السطوح، خلال المؤتمر العاشر للحركة، ووقوف عبد اللطيف المكي ضد العديد من المواقف والقرارات والإجراءات التي تم إتخاذها وخاصة قرار تعيين أعضاء المكتب التنفيذي من قبل رئيس الحركة ودون إنتخابات، وهو مااعتبره “إنتهاكا للديمقراطية” وتسليما بتثبيت “السلطة الفردية” في قيادة حركة النهضة.
أثارت هذه المواقف حفيظة راشد الغنوشي، معتبرا إياها خروجا عن الإجماع الذي مثل، في فترة من الفترات وخاصة خلال الأزمات، قوة الحركة وصمام أمانها، فتم إستبعاده من المربع المضيق في قيادة الحركة، الشيء الذي أضرم نيران المواجهة بين الرجلين، حتى وصل الأمر بعبد اللطيف المكي إلى دعوة السياسيين المتقدمين في السن، ويقصد ضمنيا راشد الغنوشي، إلى ترك أماكنهم للقادة الشبان لأن الزمن غير زمانهم.
وكان عبد اللطيف المكي قد استغل فرصة إندلاع الخلافات بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة أخرى ليركب سروج الحدث بالكثير من “التفرد” إيغالا في إحراج قيادات الحركة وعلى رأسها راشد الغنوشي والتي دعت إلى الحوار لحل الأزمة القائمة في حين أعلن هو الإصطفاف وراء قطر.
صدام حاد وشرخ عميق
يبدو أن الصدام بين عبد اللطيف المكي وراشد الغنوشي قد دخل مرحلة اللاعودة بعد إصرار الأول على انتقاد كل مواقف الشيخ سواء تعلقت بما يجري داخل حركة النهضة أو برئاسته لمجلس نواب الشعب. ويعتبر المتابعون للشأن الداخلي للحركة هذا الصدام الحاد مؤشرا جديا على خطورة الشرخ الذي أصاب الحركة خاصة بعد انحياز الكثير من القياديين المؤثرين والقواعد الشبابية بالخصوص لمواقف المكي خاصة في مسألة التمديد للشيخ في رئاسة الحركة.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك