لا زالت البلاد التونسية رغم سقوط نظام بن علي منذ 9 سنوات أمام نوعين من التحديات: انتقالية وبنيوية، ويبدو أنّ المستقبل يتوقف إلى حدّ بعيد على مدى نجاح الحكومة القادمة في تقديم الوصفة السحرية لأمراض الانقسام السياسي والثقافي والاجتماعي لدينا والذي لم تساعد النخب على معلجتها بل عمقت منها.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى
لا شك أنّ قيادة الدول وتقرير مصير الشعوب وتحمّل مسؤولية وتدبير السياسات العامة تتعدّى الصدفة والتقديرات الحزبية والاختيارات الفردية، فالنخبة هي “مُتغيّر” لحركية المجتمع وهي إفراز لشكل الوعي الذي تعرفه الدول في كل مرحلة من تاريخها.
نخب النضال الوطني
لقد بيّنت بعض الدراسات الموثوق بها أنّ مرحلة النضال الوطني في تونس عرفت ثلاثة أصناف من النخب تبلورت جميعها في سياق الحركة الوطنية، حيث تميّزت كل مرحلة بنخبة مُعيّنة ووعي وطني خاص بها.
لقد عُرفت المرحلة الأولى بمرحلة التشكّل الليبرالي الذي تمثله حركة الشباب التونسي الساعية للانفتاح على قيم الحضارة الغربية، أما المرحلة الثانية فتميّزت بالمناهضة التقليدية للوجود الاستعماري عبر الخيار الاصلاحي بالاستناد على المبادئ الليبرالية، وهو ما جسّده الحزب الدستوري الحر التونسي بقيادة الشيخ الثعالبي، وفي المرحلة الثالثة واصل الحزب الدستوري الجديد وأنصاره تحت زعامة بورقيبة مناهضة الوجود الاستعماري ثم بناء الدولة المستقلة الحديثة.
وأنتجت هذه النخب بدورها قيادات من الصنف الثقيل تحظى بالاحترام ولها الجدارة المطلوبة لتولي المسؤوليات العليا في الدولة وتأدية واجبها داخل النسق السياسي والاجتماعي والتأثير في مجريات الأحداث.
لقد مرّت البلاد في عهد الزعيم بورقيبة بمرحلتين الأولى من الاستقلال سنة 1956 وحتى سنة 1970 حيث برز سياسيا تحالف الطبقة الوسطى والنقابات العمالية وقادة القطاع العام، وأصبحت التنظيمات النقابية المهنية جزءًا من الحزب الحاكم، وأضحى للإتحاد العام التونسي للشغل وزراء يمثلونه في الحكومة، كما حدث اندماج بين الحزب والدولة.
والثانية من سنة 1970 وحتى نهاية حكم بورقيبة حيث شهدت هذه المرحلة انفتاحا اقتصاديا وتوسّعا للقطاعين العام والمختلط. وكان لهذا التوسع دوره في تقوية الطبقة الوسطى. لكن شهدت هذه الفترة انتهاء التحالف بين النقابات العمالية والحكومة ولجأت الدول إلى استعمال القوة وتأزمت أوضاع البلاد مع تراجع الحالة الصحية للرئيس حتى نوفمبر 1987.
نخب مرحلة التغيير
لقد وُضِع بن علي عند استلام السلطة أمام خيارين لا ثالث لهما إما القطيعة مع الماضي وتنصيب رجاله على رأس المؤسسات الهامة في النظام، او الاعتماد على الوضع القائم في المشهد السياسي وتطعيمه. لقد كان أمامه حرّية الاختيار بين الثورة على النظام أو إصلاحه، واختار الخيار الثاني لقناعته بأهمية مؤسسات الدولة والفاعلين فيها.
في هذا السياق، اتجه إلى تشبيب النظام في مؤسسات السلطة دون التخلي عن كلّ كفاءات المرحلة السابقة. لقد استغل الأكادميين الذين تكوّنوا في عهد بورقيبة وشكّل منهم قاعدة للحكم كما أحاط نفسه بخيرة الاطارات الجامعية كمستشارين. من الواضح أنّ هذا التحول الأكاديمي شكّل منطلقا لـ “تكنوقراطية” النظام.
أسماء كبيرة راهن عليها بن علي لتكليفها بحقائب الداخلية والتربية والصحة والتعليم العالي والدفاع، شخصيات فتحت طريقها في التدريس بالجامعات والعمل في مؤسسات الدولة وأخرى صقلت تجربتها في منظمات المجتمع المدني.
كان هناك شعور في البداية بأنّ “الماكينة تشتغل” وأن ذلك يعود إلى “الكفاءات” التي تم الاحتفاظ بها أو التي راهن عليها حديثا. ولكن يبدو أن السلطة أغرت بن علي حيث تغيّر النظام مع مرّ السنين ليصبح استبداديا، مُغلقا وقمعيّا. ونتيجة لذلك شهدت البلاد بروز طبقة حاكمة انتهازية أنانية وذات مصلحية ضيقة تتكوّن من أبناء وأقارب الاسرة الحاكمة ورجال أعمال ومثقفين وإطارات من مؤسسات وأجهزة الدولة.
لم يزل الأمل لدى بن علي قائما في الاحتفاظ بالسلطة لولا إزاحته من قبل الشعب في 14 جانفي 2011، لتسقط تبعا لذلك امبراطورية الطرابلسية ومن معها من النخب الفاسدة.
نخب ما بعد الثورة
تساؤلات عديدة تدفعنا اليوم للحديث على النخب الجديدة وصعود أغلبها دون رصيد سياسي وخلفية حزبية. لا أناقش هذا المشهد الذي هو نتاج عوامل ومتغيرات معقّدة ومتشابكة أثّرت في تصويت الناخب وسلوكه (طبيعة النظام السياسي، ودور الأحزاب و محدودية مؤسسات المجتمع المدني في التأثير على الرأي العام و مستوى الاطار القانوني للانتخابات). لا يمكن في مشهد تغلب عليه “الدراما السياسية”، التوفّق في صياغة أسس التعايش المشترك وبناء علاقة جديدة بين الدين والدولة والمجتمع.
من الملاحظ أنّ النخب اليوم بخلفياتها ومستوياتها ومواقعها المختلفة تَبني شرعيّتها على ثورة 2011 وعلى نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، و لكن المشكلة أن الانقسامات الحاصلة في صفوفها وجنوحها الى العنف وشيطنة الآخر تجعل التقدم في الاصلاحات السياسية يكاد يكون عبثيا.
نحن لا نزال في بداية صيرورة ستستمر سنوات أخرى، و سوف يتطلب اصلاح الوضع القائم لا فقط حلولا للعوامل التي ساهمت في حدوث الثورة وهي: نقص في الفرص الاقتصادية و المشاركة الديمقراطية، والغضب من الأسر الحاكمة، والقلق بسبب الفساد الحاصل وارتفاع الأسعار، ولكن أيضا في اتخاذ مواقف واضحة بخصوص الفجوات الأيديولوجية بين ما هو اسلامي وما هو ليبرالي وما هو شعبوي فلكل طرف مواقفه المختلفة بخصوص الاصلاح.
لا زالت البلاد رغم سقوط نظام بن علي منذ 9 سنوات أمام نوعين من التحديات: انتقالية (transition) و بنيوية (transformation)، و يبدو أنّ المستقبل يتوقف إلى حدّ بعيد على مدى نجاح الحكومة القادمة في تقديم الوصفة السحرية لأمراض الانقسام السياسي والثقافي والاجتماعي لدينا.
بهذا المعنى، لا يمكن اعتبار انجاز الحكومات السابقة تحولا بل مجرّد رسم لمسار اصلاحي في طور الانجاز من أجل تغيير المجتمع في مختلف مجالات الحياة، ومن ثمّ العودة مجدّدا مع الحكومة الصاعدة إلى المربّع الأول والبحث عن نماذج لآليات جديدة لتنشيط الورش الاجتماعية المفتوحة والتي تخص جميع مكونات الحكم ومؤسساته بهدف إعادة تنظيمها.
فهل يمكن أن نتساءل في هذا السياق عن طبيعة نخب هذه المرحلة خصوصا وأنّ موضوعها ارتبط تاريخيا بنمط السلطة؟
* ضابط متقاعد في الحرس الوطني.
شارك رأيك