رغم مزايدات حركة النهضة وسياسة حافة الهاوية التي تنتهجها مع رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ فإن هذه الحكومة ستحصل حتما على ثقة البرلمان ففي اليوم المحدّد لعرضها على المجلس سوف يكون أغلب النواب محشورين في الزاوية خاصة أن غالبيتهم قادتهم الصدفة ووصلوا للكراسي عن طريق صرف ملايين الدينارات لشراء الأصوات في الحملة الانتخابية وهم ليسوا مستعدين أن يضحوا بمناصبهم و نفوذهم لتذهب سدى، بالتالي يكون التصويت للحكومة إنقاذا لأنفسهم قبل كل شيء.
بقلم فيروز الشاذلي
من المعروف أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي و العديد من قيادات الحركة قد قضّوا أغلب فترات المنفى الإختياري بالعاصمة الإنجليزية لندن، ربما لذلك تأثروا بسياسة القادة الإنجليز العريقة في اجادة لعبة سياسة حافة الهاوية والتي يقصد بها تحقيق مكاسب معينة عن طريق تصعيد أزمة سياسية ودفع الأمور إلى حافة القطيعة، مع إيهام الخصوم السياسيين بأنهم يأبون التنازل أو الرضوخ حتى لو أدّى ذلك إلى اجتياز الخطوط الحمراء المحدّدة لهذه الحافة الخطرة. لكن تناسى أغلب قيادات حركة النهضة المتأثرين بهذه السياسة أن أغلب الزعماء الإنجليز أنفسهم لم يفلحوا دائما في كسب التنازلات من خصومهم بل وجدوا أنفسهم يدفعون الثمن باهظا.
سياسة أضرّت كثيرا بالثورة
سياسة حافية الهاوية التي يحبذها شق لا بأس به من حركة النهضة كانت آخر مفاعيلها قرار مجلس شورى النهضة بالأمس، الجمعة 14 فيفري 2020، عدم التصويت لحكومة إلياس الفخفاخ بتشكيلتها الحالية و اختيار موعد الندوة الصحفية لإعلان ذلك من قبل عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى قبل سويعات فقط من دخول إلياس الفخفاخ إلى قصر قرطاج بنية تقديم التشكيلة الحكومية كان بمثابة حشر في الزاوية لرئيس الحكومة المكلف و إجباره على تأجيل إعلان الحكومة، بالرغم من أن حركة النهضة كانت تستطيع منذ البداية إبداء تحفظها على التركيبة المقترحة عليها من حيث عدد الوزارات المسندة والأسماء المقترحة، ولكن أصرت على لعب ورقة الضغط في اللحظات الأخيرة لتركيع رئيس الحكومة المكلف وتوجيه رسالة واضحة أنه لا يستطيع المضي قدما في تقديم حكومته لنيل الثقة دون تنفيذ إملاءاتها.
في نفس الوقت تريد الحركة توجيه رسالة ثانية إلى رئاسة الجمهورية مفادها أن الحكومة يتم تكوينها بشروطها وتحت نفوذها لذلك كان اختيار زمن الإعلان عن رفض التشكيلة قبل مقابلة الفخفاخ لرئيس الجمهورية ليكون لقاء دون نتيجة، بعد ذلك تكون الفرصة مواتية للحركة لإبتزاز والضغط على رئيس الحكومة المكلف لأنه سيكون تحت ضغط الوقت وليس أمامه خيار آخر سوى القبول بشروط و طلبات النهضة الإضافية التي يبدو أنها ستكون محل مفاوضات مضنية إلى اللحظات الأخيرة قبل الموعد الجديد المحدّد السادسة مسا اليوم، السبت 15 فيفري.
من خلال الكلمة التي ألقاها عبد الكريم الهاروني يوم أمس يتبين بوضوح سعي الحركة للحصول على المزيد من المكاسب في اللحظات الأخيرة وتعلية سقف التفاوض من خلال محاولة الرجوع برئيس الحكومة إلى نقطة الصفر في مفاوضاته مع الحركة عبر إعادة رفع شعار حكومة وحدة وطنية بمشاركة حزب قلب تونس بالرغم أن سياق حديث الهاروني كان واضحا بالتركيز على عدم رضا الحركة بالمقاعد المسندة لها وكذلك تحفظها على بعض الشخصيات التي تولت الوزارات السيادية و التي ترى أنها غير مستقلة حسب رؤيتها، وبما أن الحركة تعرف مسبقا أن رئيس الحكومة ألزم نفسه بعدم تشريك قلب تونس في الحكومة فهي تجعله بين خيارين أولهما مشاركة قلب تونس وهو ما يرفضه الفخفاخ و الخيار الثاني القبول بكافة طلبات النهضة لكي يحصل على ثقة نوابها في الجلسة العامة.
سياسة حافة الهاوية ليست جديدة على ممارسات النهضة فهي قد عودتنا على ذلك منذ زمن حكومة “الترويكا” سابقا عندما تمسكت لآخر لحظة بحكومة علي العريض سنة 2013 بالرغم من حالة المجهول التي كانت ستدخل فيها البلاد بسبب تمديد عمل المجلس التأسيسي والسلط المؤقتة المنبثقة عنه ونذور مواجهة داخلية بعد تتالي الإغتيالات السياسية واستشهاد عدد كبير من العسكريين و الأمنيين بسبب فشل سياسة مكافحة الإرهاب وقتها، ولكن تم القبول في الأخير بتسليم مقاليد القصبة إلى حكومة المهدي جمعة بعد جهد جهيد.
نفس هذا التمشي وقع تطبيقه في التعامل مع المشاكل الأمنية والسياسية التي أفرزتها روابط حماية الثورة و التي لم تقتنع الحركة إلى آخر لحظة بضرورة حلّها إلا بعد أن تورطت هذه الروابط في العديد من الإعتداءات على اجتماعات سياسية ونقابية.
هذه السياسة أضرّت كثيرا بمصداقية الثورة التونسية و أفرغتها من أي ميثاق أخلاقي للعمل السياسي بعد الثورة إلى حد أن الأمور اختلطت على المواطن الذي أصبح يعيش في كوكب أخر مخالف للذي يعيش فيه السياسيون، ومع كل يوم أصبح المواطن ومن بينهم ناخبي النهضة يدركون الانفصام السياسي الذي تعيشه بعض قيادات الحركة الإسلامية عن واقعهم، فالمواطن البسيط أصبح مجبرا على إيجاد الحلول لمشاكله لوحده في ظل غياب الدولة فالزيت النباتي المدعم مفقود ومادة السكر والفارينة المدعمة للمخابز تشهد نقصا واضحا و مربو الماشية أصبحوا مجبرين على بيع قطعانهم في ظل غياب كلي للأعلاف الحيوانية وارتفاع الأسعار بالسوق السوداء أين وصلت أسعار السداري إلى 34 دينار للكيس الواحد، بينما حركة النهضة تبدو غير مستعجلة لوضع حد لفترة تصريف الأعمال في تبجيل واضح لمصالحها على حساب متطلبات المواطن البسيط.
النهضة لا تستطيع تحمل تبعات أزمة سياسية
لعب سياسة حافة الهاوية تمثل سلاحا ذا حدّين فإن لم يرضخ إلياس الفخفاخ لطلباتها المستجدة في آخر لحظة فإن الذهاب نحو إسقاط حكومته سوف يفتح الباب نحو أزمة سياسية كبرى بالبلاد وعندها لن تكون المشكلة متمحورة حول موضوع فشل تشكيل الحكومة بل ستكون سهام النقد والمطالبة بالتغيير موجهة حصرا نحو النظام السياسي المعتمد ككل منذ دستور 2014 لتجد حركة النهضة نفسها مسؤولة عن فتح باب التشكيك تجاه هذه الهيكلية لنظام الحكم في تونس وسيتم تحميلها المسؤولية كاملة عن حالة الجمود و الطريق المسدودة التي وصلنا لها بحكم أنها هي الطرف الرئيسي الذي تبنى صيغة هذا الحكم أثناء إعداد دستور 2014 وكذلك لأنها فشلت في تكوين الحكومة الأولى برئاسة الحبيب الجملي بالرغم من استنفاذها للمهلة الدستورية الأولى والثانية دون نتيجة تذكر.
تبعا لذلك، لن تستطيع حركة النهضة تحمّل المسؤولية السياسية لفشل حكومة الفخفاخ في نيل الثقة خاصة أن السيناريوهات المترتبة على ذلك غير واضحة فكما يمكن المرور مباشرة نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها بقيام رئيس الجمهورية بحل مجلس الشعب، كذلك يمكن أن نكون أمام مشهد سريالي ببقاء حكومة الشاهد إلى أجل غير مسمى، وهو آخر ما تتمناه حركة النهضة التي تتهم الشاهد بمحاولة السيطرة و الاستحواذ على مفاصل الدولة العميقة.
إضافة لذلك سوف تفقد الحركة ليس مصداقيتها في الداخل فقط –إن بقيت لها مصداقية – بل على الصعيد الخارجي خاصة لدى الشركاء الدوليين الذين بكل تأكيد سيراجعون حساباتهم، فالفشل في نيل الثقة للحكومة سوف ينظرون إليه من باب تعطّل المسار الديمقراطي بتونس.
الخوف على الكراسي سوف يجبر النواب على التصويت
في اليوم المحدّد لعرض الحكومة على البرلمان لنيل الثقة سوف يكون أغلب النواب محشورين في الزاوية أكثر من إلياس الفخفاخ نفسه خاصة أن هؤلاء النواب في غالبيتهم قادتهم الصدفة ووصلوا لهذه الكراسي بالمجلس النيابي عن طريق صرف ملايين الدينارات لشراء الأصوات في الحملة الانتخابية وهم ليسوا مستعدين أن يضحوا بمناصبهم و نفوذهم لتذهب سدى، بالتالي لن يكونوا أمام خيار سوى التصويت لهذه الحكومة إنقاذا لأنفسهم قبل كل شيء.
أما بخصوص الأحزاب الكبيرة فلن يكون مصيرها أفضل من النواب المستقلين مع بعض التنسيب فهذه الأحزاب هي في حد ذاتها غير ضامنة أن تتحصل على مقاعد تساوي أو تفوق النتائج الحالية بل بالعكس فكل استطلاعات الرأي حتى من قبل شركات سبر الاراء المقربة من حزب النهضة وقلب تونس تفيد باحتمال كبير جدا لتراجع عدد نواب هذه الأحزاب في صورة إعادة الانتخابات بحكم تحميل الناخبين المسؤولية لهذه الأحزاب وفقدان مصداقيتها مما سيعطي مشهد أكثر فسيفسائية من البرلمان الحالي مع عدم إغفال إمكانية دخول رئيس الجمهورية على الخط لتشكيل جبهة برلمانية داعمة له ربما تقلب جميع المعادلات السياسية بالبلاد.
شارك رأيك