مناورة حزبي النهضة و قلب تونس بالتلميح بالانقلاب على حكومة يوسف الساهد والتلاعب بالدستور كانت فاشلة سياسيا بامتياز بل ارتدّت على أصحابها، كونها قد قوّت من موقع رئاسة الجمهورية وجعلت مصير هواة الإنقلابات في موقع المرتهنين لقرارات قيس سعيّد.
بقلم فيروز الشاذلي
منذ استلام قيس سعيّد لرئاسة الجمهورية بقرطاج وهو يتعرّض لهجمة شرسة كانت رمادية اللون غير معروفة المصدر لكن مع تقدم الوقت أصبحت هذه الأطراف تتكشف لنا تدريجيا وقد استغلّت هذه الأطراف بعض الأخطاء في المطبخ السياسي لقصر الرئاسة (وزادت عليها حجم وثقل الملفات المطروحة منذ اليوم الأول أمام قيس سعيّد كالمشكلة الليبية التي كانت على أبواب حرب إقليمية شاملة أو الملف الفلسطيني وخاصة أن الولايات المتحدة ترمي بكل ثقلها وراء خطة رئيسها دونالد ترامب الجامح وراء المطامع الصهيونية بتصفية هذه القضية)، هذه الملفات المتتالية جعلت من رئيس الجمهورية في موقف دفاع ونوع من الضعف استغلته بعض الأطراف للهجوم على الرئاسة والتهليل بتراجع شعبية الرئيس.
لكن لم تدر هذه الأطراف (وخاصة حزبي قلب تونس و حركة النهضة) أن أهم ملف سوف يكون من أنظار رئيس الجمهورية يهم تكوين الحكومة وسيمثل عودة الروح لطائر الفينيق بالنسبة لسعيّد بعد أن حاولوا تحجيم دوره وبخاصة إمكانياته التسيرية للدبلوماسية والعلاقات الخارجية، حيث كان رد الرئيس بالأمس، الإثنين 17 فيفري 2020، قاطعا أمام راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب و رئيس حركة النهضة، بأن لا كلمة تعلو على كلمة رئيس الجمهورية بخصوص تحديد مآل الأفق السياسي للأزمة السياسية حسب الدستور فإمّا البحث عن حل لحكومة إلياس الفخفاخ والتصويت لها أمام البرلمان أو حل المجلس والعودة للناخبين وهم المصدر الوحيد للشرعية حسب الدستور.
قيس سعيّد يلعب براحة في ميدانه
من المفارقات أن طيلة السنوات الفارطة قبل انتخابه كان قيس سعيّد دائم الحضور في الإعلام ليقدم استشارات حول مسائل دستورية وكان مطلوبا جدا لهذا الموضوع بحكم خبرته كأستاذ قانون دستوري محنّك وخاصة لما عرف عنه من نزاهة وحيادية، ليجد قيس سعيّد نفسه اليوم هو المؤتمن ذاته على تطبيق الدستور الذي كان واضحا في فصوله على إقرار علوية رئيس الجمهورية في الحفاظ على الدستور ووحدة البلاد التونسية.
هذه الميزة لرئيس الجمهورية بكونه أستاذ قانون دستوري وملم بدوره حسب دستور 2014 جعلته لا يضيّع الوقت كثيرا في قطع الطريق على مناورات الوقت الضائع التي كانت مصدرها كل من حزبي قلب تونس وحركة النهضة عبر تصريح كل من القيادي بالحزب الأول عياض اللومي و رئيس كتلة حركة النهضة بالبرلمان نور الدين البحيري حول أحقية البرلمان بعد إسقاط حكومة الفخفاخ باللجوء إلى الفصل 97 وسحب الثقة من حكومة تصريف الأعمال برئاسة يوسف الشاهد وتكوين حكومة أخرى برئاسة شخصية يتفق عليها الطرفان.
ولكنهما من خلال التلويح بهذه المناورة السياسية خدموا رئيس الجمهورية من حيث لا يدرون فها قد نقلا التشابك السياسي للميدان الذي يتقنه قيس سعيّد جيدا، مما جعل رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في موقف لا يحسد عليه وهو يتابع كلام رئيس الجمهورية الموجه إليه بضرورة تحمّل كل من كتب الدستور المسؤولية كاملة وأنه لا مجال لتجاوز الفصل 89 وبأن رئيس الجمهورية هو الحامي الأول للدستور، في إيحاء ضمني برفضه إلى أي محاولة التفاف أو انقلاب على المسار الدستوري، وهو مشهد جد معبّر فأول مرة يكون الغنوشي في موقف المتعلّم و فاقدا للهالة المحيطة به.
من حفر جبّا لأخيه وقع فيه
ما كان في الخفاء أصبح الآن في العلن هذا هو باختصار علاقة حركة النهضة أو تيار من الحركة برئاسة الجمهورية فالدعوة إلى تفعيل الفصل الخاص بسحب الثقة من حكومة الشاهد واستبدالها بحكومة أخرى بالرغم أنها حكومة تصريف أعمال وغير مسؤولة أمام البرلمان الحالي باعتبارها نابعة عن البرلمان السابق الذي أعطاها الثقة، فليس المقصود من هذا التوجه إسقاط حكومة الشاهد بطريقة غير دستورية بل هو تعبير صريح عن نوايا حركة النهضة مدعومة من حزب قلب تونس في افتكاك زمام المبادرة من رئيس الجمهورية بخصوص مسار تشكيل الحكومة، فحسب المناورة التي تريد القيام بها يجب أن يسترد مجلس النواب برئاسة الغنوشي المبادرة في تشكيل، الحكومة والمخرج الذي وجدته الحركة هو عبر الفصل الخاص بسحب الثقة من حكومة الشاهد فيما يشبه إسقاطا جزافيا وتعسفا دستوريا يرتقي إلى مستوى انقلاب دستوري متكامل الأركان.
إذا هذا التحايل على فصول الدستور وتحميله ما لا يحتمل كان الهدف منه تجريد رئيس الجمهورية من أحقية الإشراف على مسار تشكيل الحكومة حسب ما يقتضيه الدستور وفرض سطوة الثنائي قلب تونس وحركة النهضة على الساحة البرلمانية بعد أن فشلت حركة النهضة في تكوين حكومتها برئاسة الحبيب الجملي، لذلك لم يكن الشاهد هو المقصود بقدر المقصود هو الرجوع بالعملية السياسية إلى مربعها الأول.
أمام هذه المناورات السياسية التي لا يمكن وصفها إلا أنها عبثية ويمكن أن تذهب بنا نحو متاهات لا يحمد عقباها، أثبت قيس سعيّد أنه الرجل المناسب في المكان المناسب فيما يخص تحمل مسؤوليته في حماية الدستور من التجاوزات التي قد تفكّر فيها هذه الأطراف لمصالح حزبية ضيقة، أما بخصوص هذه الأطراف فقد بيّنت بكل وضوح أن كل المسارات مباحة في سبيل تحقيق مكاسبها الحزبية الضيقة حتى على حساب استقرار الوطن.
الخوف من إعادة الانتخابات
هذه المناورة كانت فاشلة سياسيا بامتياز بل ارتدّت على أصحابها، كونها قد قوّت من موقع رئاسة الجمهورية وجعلت مصيرهم في موقع المرتهنين لقرارات قيس سعيّد، ثانيا أصبحوا عند عامة الشعب التونسي في موقع الانقلابيين على الدستور.
أما أهم خلاصة سياسية نستطيع استخلاصها من هذه المناورة هو الخوف الجدي عند قيادات كل من حركة النهضة وقلب تونس من فرضية حل البرلمان وإعادة الانتخابات فعكس تصريحاتهم العلنية المرحبة بإعادة الانتخابات وثقتهم بثقلهم الانتخابي تبيّن طريقة لجوئهم إلى مخرج تلفيقي والتفافي على أحكام الدستور بأن فرضية إعادة الانتخابات غير محبّذة لديهم وتثير الخوف في قيادات الحزبين.
شارك رأيك