أصبح واضحا أن أداء حزب حركة النهضة في الساحة السياسية التونسية و خاصة في صياغة كواليسها مبني فقط على قصة الإقصاء و الاستئصال فيما يشبه عقدة الضحية التي لم تتخلص منها الحركة بالرغم من سقوط حكم بن علي و الدخول في المسار الديمقراطي بعد جانفي 2011 ووصولها منذ ذلك العام إلى رأس السلطة في البلاد.
بقلم فيروز الشاذلي
هذه الفوبيا التي مازالت تلازم الفكر الباطني لقيادات حركة النهضة له تبعات كثيرة أثّرت بشكل واضح على توجهاتها السياسية في تشكيل الحكومة خاصة بعد أن استقوت المعارضة الحزبية للحركة بعد انتخابات أكتوبر 2019، فوجدت الحركة نفسها تبحث عن حل لهاجس وجودها أكثر مما تبحث عن تحقيق بديل سياسي واقتصادي للمجتمع التونسي و أصبح السؤال الميتافيزيقي للحركة قبل الموافقة على أي حكومة أو طرح سياسي هل سيكون هذا التمشي في مصلحتها و مصلحة أعضائها أو هو بداية لإقصائها و استئصالها ؟
هاجس الخوف يشلّ الحركة ويوجه مواقفها
حرص حركة النهضة على مطلب حكومة وحدة وطنية و إشراك جميع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان التي ترغب في ذلك خاصة قلب تونس وسعيها للعب دور مركزي في تشكيلها عبر إبداء الرأي في الوزراء المرشحين لوزارات السيادة، مع تجاوز شعارات الحملة الانتخابية و البرامج الاقتصادية الموعود بها وتركيز الحركة على التوافق وعدم الدخول في منطق الإقصاء، كل هذا نابع أساسا من فكر نهضاوي مازال يؤمن بأن صراع الوجود والإقصاء مازالت مقوماته موجودة عند الكثير من الأطراف ومربكة لمسار الانتقال الديمقراطي بكامله.
في العقل الباطني للحركة كل عوامل إقصائها نهائيا و طي صفحة الوجود الإسلامي في الحكم موجودة وبقوّة، فبالنسبة لقيادات الحركة كانت تجربة السنوات التسع الفارطة كفيلة للتأكد بأن نفس المنظومة الرافضة لهم مازالت تحكم أغلب الفاعلين السياسيين وخاصة الدولة العميقة في امتداد لفكر بن علي ما قبل الثورة، وتدعم هذا الطرح بصعود أحزاب مناوئة للنهضة خاصة الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي ومعاداته الشرسة للحركة، إذ ما فتئت عبير موسي وقيادات حزبها تعبر صراحة عن رغبتها الملحة في إقصاء النهضة وأن المكان الطبيعي لمنتمي الحركة هو السجون والمعتقلات مما قوّى الانطباع لدى أغلب قيادات حركة النهضة بأن الجميع مستعد للتحالف في مواجهتها عبر تحجيم دور الإسلاميين.
تدرك النهضة باستمرار أن غلبة هذه العقلية على أغلب الفاعلين في المنظومة الحزبية يفرض عليها باستمرار الحذر الدائم كي لا تسمح بأن يجتمع الجميع في مواجهتها وحشرها في الزاوية خاصة أن السمة البارزة للاستبداد في العقود الأربعة الأخيرة على المستوى الوطني و مستوى الوطن العربي كان هدفه الأساسي استهداف الإسلاميين، وتوصلت الحركة إلى نتيجة حتمية أن كل تحالف بين النخبة الحداثية و الدولة العميقة كان الإسلاميون دوما ضحيته. هذه العقدة هي السبب الأساسي التي أصابت الحركة بالشلل السياسي بعد فوزها بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الفارطة و التي كانت السبب الأساسي في سقوط حكومتها برئاسة الحبيب الجملي رغم استنفاذها للمهلة الدستورية الأولى والثانية، فقرابة الشهرين و الحركة لم تستوعب متطلبات المرحلة لأن تفكيرها مشلول بعقدة الخوف من إقصائها وكانت المراوحة بين الأحزاب الثورية أو الالتحاق بحزب المنظومة حزب قلب تونس، فوجدت نفسها خسرت الإثنين و أصبحت لا تتحكم في مقاليد تكوين الحكومة بالعبور نحو الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور و إسناد مهمة التكليف إلى إلياس الفخفاخ .
انعدام الثقة مع أحزاب الثورة والتقارب الهستيري مع حزب قلب تونس
ضمن هذه العقدة الوجودية التي تعاني منها النهضة نجد هناك تداخل ساعد في تأزيم الوضع السياسي وهو أزمة انعدام الثقة بشكل مفرط مع أحزاب الثورة و الذي حكم بالفشل على لحظات التفاوض الكبرى التي شهدها المسار الحكومي منذ تسمية الحبيب الجملي وبعدها تسمية إلياس الفخفاخ، حيث ساعد هذا المناخ في عدم الثقة في أن تجد حركة النهضة مبررات لتصرفها من قطيعة مع أحزاب الثورة و تقارب هستيري مع حزب قلب تونس، فالتوجس كان الغالب على سلوك النهضة مع التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحتى مع تحيا تونس حتى أنها رافضة لبعض الأسماء المستقلة التي تم اختيارها فسارعت إلى ضرورة فرض شروطها و حجمها و إلى استيعاب حزب قلب تونس تجنبا لكل تحالف في مواجهتها في قادم الأيام.
تجاوز فوبيا الإقصاء عبر العمل الديمقراطي الحر
تجاوز فوبيا الإقصاء عند فصيل سياسي مهم في المشهد السياسي التونسي لا يمكن أن يكون إلا عن طريق مبادرة جماعية تمكنّنا من تجاوز هذه المشكلة المبدئية في العمل السياسي، هذه المبادرة لا يمكن أن تنضج إلا متى اقتنعت القوى الديمقراطية الحقيقية أن طي صفحة الاستبداد و الانتقال النهائي نحو العمل الديمقراطي الحر يكمن في إرساء حرية ممارسة السياسة مادام تحت سقف الدستور و مقتضيات قانون المؤسسات المدنية بما فيهم الإسلاميين، وهذا التوجه يمثل في حد ذاته ضمانا للديمقراطية الحقيقية لأن القبول بمبدأ العمل السياسي للإسلاميين يمثل في عديد الأحيان اختبار لنوايا الاستبداد السياسي في العقل المفكر لبعض الأحزاب السياسية كحزب عبير موسي الذي مازال يجتر كل مقومات الاستبداد النوفمبري وهو ما نشهده جليّا من سلوكيات الحزب حيث منطلقه الأساسي هو رفض الوجود الإسلامي في الحكم، ولكن امتدادات هذا التفكير تذهب نحو رفض كل الأحزاب مهما كانت اختلافاتهم وتكريس نظرية الشخص الحاكم بأمره، وهذا ما بدى واضحا في رفض هذا الحزب لأي محادثات سياسية مع أطراف سياسية تعتبر قريبة منه وتنتمي للعائلة الدستورية في مقابل تأليه شخصية عبير موسي الحاكمة بأمرها في هذا الحزب.
لا ننسى أن عميد السياسة في تونس بعد الثورة المرحوم الباجي قائد السبسي كان نبيها من هذه القضية وأدرك أن الموقف من حركة النهضة و طريقة التعامل معها بعد نجاحه في انتخابات 2014 في الرئاسة و التشريعية هو المحدّد لضمان الانتقال الديمقراطي و الابتعاد عن الاستبداد لذلك حرص الباجي رحمه الله على عدم إقصاء حركة النهضة وحشرها في الزاوية باعتبارها المكون الثاني في البرلمان لعدم الدخول في منطق الإقصاء.
ما يجب إدراكه فعلا من قبل الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية التونسية خاصة الأحزاب المؤمنة بالفعل بالعمل الديمقراطي البناء هو ضرورة وجود مناخ ثقة متبادل و أن الأسلم لترجيح كفة المطالب الثورية هو تبديد هذه المخاوف عن الجانب النهضاوي وعدم زجره للالتصاق بالمنظومة المضادة لأن ذلك سوف يؤدي حتما لاكتمال ابتلاع ما تبقى من المطالب المحقة التي رفعتها الثورة خاصة محاربة الفساد وبناء مؤسسات القانون.
شارك رأيك