رحل الكاتب والصحفي الكبير جان دانيال مؤسس مجلة “لونوفال أبسرفتور” وصاحب التآليف العديدة عن سن تناهز المائة، وهو لمن لا يعرفه جيدا يهودي الديانة لائكي الفكر، من أصول جزائرية كما صديقه الحميم الكاتب ذائع الصيت ألبار كامو، وقد سبق وأن أصيب جون دانيال بجروح في معركة الجلاء ببنزرت أثناء تغطيته لوقائعها، ومن يومها إرتبط بتونس برباط وجداني مثير.
بقلم مصطفى عطية *
إلتقيته لأول مرة في منتصف التسعينات في منزل الرسام الكبير جلال بن عبد الله بسيدي بوسعيد وكان مصحوبا بصديقه الكاتب الفرنسي المعروف جاك جوليار، إكتشفت شخصية فكرية وإنسانية فذة تدافع عن حقوق الإنسان والشعوب، غزير المعرفة، ثري المرجعيات، قوي الحجة، يتكلم كما يكتب بإيقاعية أدبية مبهرة.
كان مولعا ببورقيبة ويتحدث عنه بتمجيد وٱنبهار في حين لم يكن لينا عند ذكره لبن علي ويقول فيه ما قاله أبو الطيب المتنبي في كافور الإخشيدي عندما كال له الهجاء جزافا.
بورقيبة وسرعة بديهة مذهلة
يروي جان دانيال في كتابه “كنش طريق” أنه طلب من السلط التونسية تمكينه من زيارة الرئيس بورقيبة في مقر إقامته الجبرية بضاحية صقانس جنوب مدينة المنستير فسمح له بذلك بعد تدخلات مكثفة من عدة جهات، ولما جلس إلى بورقيبة طلب منه هذا الأخير أن يخرجه من “محبسه” ليزور مقبرة آل بورقيبة ليترحم على والدته ووالده فطلب جان دانيال الإذن من والي المنستير لتلبية رغبة الزعيم، وبعد مشاورات طويلة بين الوالي والقصر تم السماح لهما بذلك.
يقول جان دانيال في مذكراته أن والي الجهة إستقبلهما في مدخل المقبرة بهتافات مجموعة من الأطفال وهم يرددون “بورقيبة – بن علي” فهمس بورقيبة في أذنه: “أرأيت صديقي إنهم مازالوا يتذكرون إسم والدي” !!! في إشارة إلى والده علي ومتعمدا تعتيما ذكيا على الرئيس بن علي !!!
وفي زيارة أخرى لبورقيبة في عزلته سأله جان دانيال : “كيف حالك سيدي الرئيس” ؟ فأجابه بورقيبة بطريقة مبهمة قائلا: “هل تعرف نهج لستراباد بالحي اللاتيني بباريس”؟ يقول جان دانيال أنه أجابه بالنفي وطلب إستفسارا من بورقيبة لكنه إكتفى في إجابته بأن طلب منه البحث عن هذا النهج وزيارته !!!
بادر جان دانيال بالبحث عن هذا النهج حال عودته إلى باريس ليكشف عن لغز إجابة بورقيبة المبهمة، فوجد نهجا عتيقا على نمط الأحياء القروسطية في باريس بمنازلها ذات الأبواب الكبيرة المسمرة وفي آخره مكتبة متداعية، دخلها فوجد إمرأة عجوز سألها : “هل تعرفين بورقيبة”؟ فأجابت بالنفي، أجال بنظره في أرجاء المكتبة فلفتت إنتباهه لوحة زيتية كبيرة تجسم صورة الكاتب الكبير فيكتور هيڨو وهو في عزلته الشهيرة، تفطن جان دانيال إلى أن بورقيبة كان يريد إشعاره بذكر نهج لسترباد بأنه يعيش عزلة كتلك التي عاشها فيكتور هيڨو.
شكوى جان دانيال والرد الغريب للمرحوم عبد العزيز بن ضياء
أتذكر أني رافقت أحد الوزراء في عشاء ثلاثي مع جان دانيال بأحد المطاعم الشهيرة بجهة القصبة في العاصمة، وٱشتكى لنا جان دانيال من عدم المبالاة التي يلقاها من السلط التونسية كلما زار تونس خلافا لما كان يحظى به من عناية رسمية في زمن بورقيبة أو عندما حلوله ضيفا على المغرب حيث يبادر الملك بٱستقباله وإكرام إفادته.
رفع الوزير تقريرا في هذا الشأن إلى الرئيس بن علي مقترحا عليه إستضافة جان دانيال وٱستقباله في مكتبه بٱعتباره صوتا إعلاميا وفكريا مشعا يمكن الإستفادة منه.
بعد أيام هاتف المرحوم عبد العزيز بن ضياء الوزير مبلغا إياه شكر الرئيس له على اقتراحه ومشترطا أن يبادر جان دانيال بكتابة مقال في مجلة “لونوفال أبسرفتور” يمدح فيه بن علي ليتسنى إستقباله في القصر وتكريمه. وجد الوزير الجرأة الكافية ليقول لعبد العزيز بن ضياء : “سي عبد العزيز جان دانيال ليس صحفيا بجريدة التجمع لنطالبه بهذا !!!” وٱنتهت المكالمة على إيقاع متشنج وخسرت تونس في ذاك العهد صحفيا أحبها وأحب بورقيبة وكان منبهرا بالرسام الراحل جلال بن عبد الله ومصمم الأزياء العالمي المرحوم عزالدين علية. وكان آخر مقال كتبه جان دانيال في “لونوفال أبسرفاتور” مرثية لهذا الأخير.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك