غياب التماهي بين طريقة عمل الفريق الإعلامي لرئاسة رئيس الجمهورية قيس سعيد وممارسات هذا الأخير الذي اعتاد الحديث للمؤسسة التلفزة والإذاعة الوطنية أصبح من الضروري جدا تجاوزه بعقد ندوات صحفية أو باعتماد ناطق اعلامي لمؤسسة الرئاسة.
بقلم جعفر بوزميطة *
أكّد تصريح عبد الرؤوف بالطبيب، المستشار السابق للرئيس قيس سعيد، غياب إستراتيجية إعلامية لمؤسسة الرئاسة. فحديث بالطبيب عن المغالطات من قبل المستشارة الاعلامية رشيدة النيفر يفسر غياب الدور الاتصالي للرئاسة في الخارج كما في الداخل، حيث غابت تونس إعلاميا وسياسيا عن قمتي برلين و دافوس وحاولت الرئاسة تدارك الأمر من خلال رفض الدعوة المتأخرة من المستشارة ميركل لحضور اجتماع برلين وتحجج الرئيس بالسفر لأداء واجب التعزية اثر وفاة سلطان عمان. كانت هذه الزيارة تهدف في جانبها الإعلامي إلى الردّ على تداول خبر فوبيا الرئيس من السفر بالطائرة بعد تغيبه عن جنازة القائد صالح في الجزائر.
الانفلات وعدم انضباط الفريق الرئاسي في الجانب الإعلامي
كما تعمقت الأزمة الاتصالية مع زيارة اردوغان اثر تصريح رشيدة النيفر بشكل مفاجئ عن زيارة الرئيس التركي، وهو ما عمق تجاذبات الفريق الرئاسي التي أربكت بناء خطاب إعلامي متماسك تزامن مع فترة عدم الاستقرار السياسي بعد أزمة تشكيل الحكومة.
طغت سمة الانفلات وعدم انضباط على الفريق الرئاسي خاصة في جانبه الإعلامي. هذا ما أكّده تصريح المستشار السابق للرئيس، وهو ما قد يفسح المجال للتأويل بوجود صدام خرج فعلا صداه للفضاء العام بشكل أساء لصورة مؤسسة الرئاسة من ناحية و دحض محاولة بالطبيب تقديم الرئيس خلال حواره الإذاعي على موزاييك على أنّه “صاحب شخصية قوية وغير قابلة للتأثر” من ناحية أخرى.
جعلت تجاذبات الفريق الإعلامية بين تصريحات وتقاذف بالاتهامات اظهرت ان ساكن قرطاج غير مسيطر على فريقه، وبرز ذلك خاصة التجاهل الواضح لوجب التحفظ.
وهكذا حلّ مكان الالتزام الأخلاقي والسياسي شخصنة الاستقالة وتفسيراتها والخروج بكواليس الرئاسة إلى الفضاء العام مما قد يشرّعن طرح تساؤلات عن دور وأولويات الفريق الإعلامي.
اذ وجب التذكير هنا بدور الفريق الإعلامي في الديمقراطيات الغربية ونخص بالذكر تجربة أليستر كامبل الذي اشتغل مستشارا إعلاميا لرئيس الوزراء السابق البريطاني توني بلير حيث فرض الانضباط والصرامة على كل الوزراء الذين أجبروا على المرور به قبل الإدلاء بأي تصريح كما نجح في فرض إستراتيجيته الإعلامية وتوصياته على رئيس الوزراء فمنع التصريحات الجانبية وأجبر الصحفيين على المرور بالمكلف الإعلامي بعد أن كانت الأخبار تأخذ في أحاديث جانبيّة من إحدى المقاهي القريبة من مقر الحكومة في لندن.
الإشارة إلى التجربة البريطانية يفسر فشل المكلفة الإعلامية وفريقها في وضع إستراتيجية إعلامية تُطوّع الرئيس وخطاباته لمنطق علوم الاتصال والتواصل حسب مقتضيات المرحلة.
تكرار مفردات رئيس الجمهورية وضبابية إجاباته على أسئلة الإعلاميين
فالظهور التلفزي للرئيس بعد 100 يوم من توليه الرئاسة لم يغير من خطابه الذي اتسم بالتكرار لجملة من المفردات وضبابية في الإجابة، إضافة الى استعماله لعربيّة فصحى أصبح المواطن العادي لا يستسيغها بل حجبت عنه مضمون الخطاب.
قد يصح تصوير بالطبيب للرئيس بالشخصية غير القابلة للتأثير، إلا أنّه لم يعد إيجابيا حيث بدا شخصًا متعنتًا مخاطبًا لمجتمعٍ في غالبه رقمي لا يفقه في الكلمات المبهمة.
فرفض الرئيس أو غياب توصيات لتطويع الخطاب يقلّص من منسوب الثّقة بين المواطن والرئاسة، وبهذا إنعدم تطويع الخطاب يعرقل نجاح تسويق مشروع الرئيس لتغيير نظام الحكم.
تجدر الإشارة أيضا إلى أنّ مشروع الرئيس وملامحه ليست واضحة المعالم ولا يعد مستساغا للطبقة المثقفة وأهل الاختصاص، فكيف سيسوّق لعامّة الشعب الذين اعتادوا على أسلوب مبسّط. حتما، غياب التغيير في الخطاب والتسويق سيجعل من مشروع الرئيس فوقيا و مُسقطا.
تنوعت مظاهر التعنّت في الخطاب وتكرّرت من خلال التشبث بالتعريف الاصطلاحي للمفردات مما كشف عدم تخلّص قيس سعيد من صفته البيداغوجية والأكاديمية وعدم انصهاره في دور الرئيس الذي يستوجب بيداغوجيا مختلفة عن منطق الجامعة والتدريس. ضف إلى ذلك تمسكه بالخطابات المكتوبة والتشبث بقراءتها حرفيًا مما قلص قدرة الرئيس على الاقتراب من مواطنيه أي أن غياب “لا بروكسيميتي” او ما يسمى بخطاب “القرب” في خطاباته أصبحت السمة الأبرز.
التقصير الإعلامي لمؤسسة الرئاسة الذي بات متأخّرا عن مفهوم التواصل الحديث الذي يعتمد الحينيّة
فلئن تجاوزت الرئاسة الشكل الرُّكحي أو الإطار(لا ميز اون سان) بعد تجاذبات وانتقادات اثر حذف صورة الرئيس بورقيبة من عدهما من خلفية المكان المخصص للتصريحات، فإن بنية الخطاب وإلقاءه لا تستند لمنطق علوم الاتصال والتواصل وهو ما من شأنه أن يقلّص هامش تكريس سلطة الرئيس المؤسساتيّة ويضرّ بمنطق تكريس منطق الدولة.
فاثر غياب السياسة الإعلامية أخذ أشكالًا مختلفة ومنها خاصّة التنظيمي، حيث شملت صعوبة التواصل مع السيدة النيفر التي فرضت التواصل معها عبر الإيميل والهاتف القار رافضة التواصل عبر الهاتف المحمول، كما شملت أخطاء تنظيمية خلال زيارة الرئيس التركي حيث منع عدد من مراسلي الفضائيات وسحبت بطاقات بعض ممثلي القنوات الأجنبية . وقد عمّق غياب توضيح من الفريق الإعلامي للرئاسة والاقتصار على إصدار بيانات توضيحية متأخرة من التقصير الإعلامي الذي بات متأخّرا عن مفهوم التواصل الحديث الذي يعتمد الحينيّة. بل إنّ غياب البيانات في بعض الأحيان عمق أيضا الغياب الإعلامي عن إحياء أحداث ساقية سيدي يوسف المشتركة مع الجزائر أو حضور القمة الإفريقية بأديس أبابا.
لم تقف الاعتباطية الإعلامية في شكلها الحالي بل تواصلت من خلال اتصال رشيدة النيفر بالمحطّات الإذاعيّة الخاصّة للردّ أو التوضيح وهوما يختلف عن رفض قيس سعيد أثناء الانتخابات و بعدها التواصل مع الإعلام الخاص.
غياب التماهي بين طريقة عمل الفريق الإعلامي وممارسات الرئيس الذي اعتاد الحديث للمؤسسة التلفزة والإذاعة الوطنية أصبح من الضروي جدا تجاوزه بعقد ندوات صحفية أو باعتماد ناطق اعلامي لمؤسسة الرئاسة.
ويبدو أنّ تداعيات غياب استراتيجية إعلامية قد أثر حتما على الدبلوماسية حيث كان التخبط الصفة الأبرز بين خطابات الرئيس الحماسية في علاقة بالقضية الفلسطينية ومسألة التطبيع وعمل مؤسسات الدولة في الخارج.
وما زاد الأمر سوء إقالة مندوب تونس لدى الأمم المتحدة بعد خمسة أشهر من تعيينه، الأمر الذي عمّق الأزمة في جانبها الاتصالي حيث أصدرت الرئاسة بيانًا لا يتناسب مع حجم المؤسسة ومفهوم استمرارية الدولة، إذ أشار البيان إلى منطق المؤامرة وتوجه “للذين دأبوا على الافتراء والتشويه فالتاريخ كفيل بفضحهم”. نصت الرئاسة في بيانها أن “من بادر بتقديم مشروع قرار مجلس الأمن (في إشارة إلى مندوب تونس لدى المنتظم الأممي، المنصف البعتي)، ومن أوعز إليه في الخفاء من تونس على النحو الذي تم تقديمه به، لم يكن يسعى إلى تمرير هذا المشروع” تمادى البيان في استعمال تعابير لاتليق بالدولة. كما اثر الإطناب في نقد “من قدم المشروع كان يعلم مسبقا بأنه سيصطدم بحق الاعتراض من أكثر من دولة وأن هدفه الذي لا يخفى على أحد كان الإساءة لتونس ولرئيسها على وجه الخصوص والذي أكّد في أكثر من مناسبة أن الحق الفلسطيني حق لا يسقط بالتقادم”.
تخبط الفريق الرئاسي أفقد الدولة مصداقيتها
حجم الضعف الإعلامي و”الأخلاقي” يعكس تخبط الفريق الرئاسي. فعوض احترام التمشي الإداري أو القانوني بما يحفظ صورة الدبلوماسية، لجآ القصر إلى التنكيل الإعلامي بمندوبها بالأمم المتحدة بأسلوب أفقد الدولة مصداقيتها حيث صدر بالبيان أنّ “من لبس رداء المدافع عن حق الشعب الفلسطيني، صار يستجدي عطف عدد من العواصم المساندة لما سمي ظلما بالصفقة، حتى يتم التراجع عن قرار إعفائه، وأنه لم يبق له سوى الاستجداء للمحتل الصهيوني، وهو يتظاهر بمواجهة الاحتلال”. وبدلا من هذا كلّه كان الأجدر برشيدة النيفر أن تنشر بيانُا تعلّل فيه الإقالة كنتيجة لعدم تنسيق المندوب التونسي مع الخارجيّة ومجموعة الدول العربية في المجلس.
كذلك التجأ البعض الي “القوالب الجاهزة” من قبيل “استدعاء المندوب للتشاور” يعد أمرا معمول به في الخطاب الديبلوماسي و مما يجنب الدخول في تفاصيل لا تعني عامة الناس. هذه الأزمة التي هي اتصالية بالأساس تعمقت مع تصريح الدبلوماسي السابق أحمد ونيس أن البيان المقدم في مجلس الأمن وقع صياغته بعد إعلام الخارجية التونسية ومندوب السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة. تصريح المستشارة حنان عشراوي، عضو منظمة التحرير الفلسطينية والتي أشادت بمهنية مبعوث تونس للأمم المتحدة شهادة زادت حسب رائي في توريط الفريق الرئاسي وهو ما سيفقد الرئيس مصداقية خطاباته و يجبر فريقه الإعلامي على إيجاد مخرج مقنع للرأي العام بإعلام مرئي يتناسب مع مجتمع رقمي، حيني ومتفاعل سياسيا.
* أستاذ باحث في الإتصال السياسي بجامعة كريتاي بفرنسا.
شارك رأيك