الإنتظار الذي ستجيب عليه قادم الأيام هو مدى قدرة إلياس الفخفاخ على قيادة الحكومة الجديدة و إعطاء النفس الحقيقي للإرادة السياسية لأن البرامج متوفرة والكل يتحدث عنها، ولكن ينقص إرادة الفعل السياسي خاصة فيما تعلق بالحرب على الفساد و التهرب الضريبي و تبييض الأموال، إضافة لفتح ملفات الصفقات العمومية و تفكيك اللوبيات المتمعشة من موارد الدعم الحكومي ومجابهة آفة التجارة الموازية.
بقلم فيروز الشاذلي
المسار الكامل من الشد و الجذب الذي عرفته ولادة حكومة إلياس الفخفاخ إلى اللحظات الأخيرة للمصادقة عليها من قبل البرلمان، جعل بعض السياسيين و المتابعين يعتبرون هذا الأخير قائد سفينة لا يتحكم في مجاديفها أو كطير مكبّل الأجنحة ولكن تناسوا أن لمنصب رئيس الحكومة صلاحيات دستورية تؤهله أن يكون في الموقع رقم واحد في السلطة التنفيذية في عديد المجالات الحيوية، خاصة أن المنظومة السياسية في تونس التي أفرزها دستور 2014 أثبتت بالكاشف أن المركب الحكومي بالنسبة للسياسيين وخاصة النواب أهم بكثير من الأحزاب التي ينتمون إليها.
لكن يجب القول أن هذه المهمة ليست بالسهلة على السيد إلياس الفخفاخ وفي نفس الوقت ليست مستحيلة، بل تعتمد أساسا على قدرة هذا الأخير في إظهار الجانب القيادي من شخصيته، خاصة في تسيير دواليب حكومته و القدرة على خلق انسجام بين بعض مكوناتها، خاصة وأنها تعطي انطباعا بالتناقض فيما بين أعضائها القادمين من مشارب سياسية جد مختلفة.
سعي النهضة وقلب تونس لإضعاف موقع رئيس الحكومة
التسويق الذي تبحث عنه بعض الأطراف السياسية حول ضعف موقع رئيس الحكومة الحالي ليس بمعطى أو حقيقة ثابتة لديها بقدر ما هي هدف لمخططاتها التي تعمل عليها هذه الأطراف السياسية في حركة استباقية لتحجيم أي دور أو تحرك سياسي لرئيس الحكومة لا يكون حسب أهوائها ومصالحها الضيّقة.
لذلك نلاحظ منذ بداية تكوين حكومة الفخفاخ وجود إصرار على تحجيم شخصية الرجل و الإمعان في ابتزازه خاصة من طرف حركة النهضة ووضعه في صفة المرتهن لقراراتها والحال من المفروض أنهم في طور بناء أرضية تفاهم وتحالف حكومي مشترك.
هذا المسعى الذي تسلكه حركة النهضة مع رئيس الحكومة يتماهى مع نفس الأهداف التي يبحث عنها نبيل القروي ومن ورائه حزب قلب تونس مع اختلاف الآليات حيث يعتمد أعضاء ونواب حزب نبيل القروي على شيطنة ممارسات الحكومة حتى قبل بدأ أعمالها مستغلين الذراع الإعلامي لنبيل القروي، قناة نسمة، وهنا الهدف واضح هو زعزعة المسار الحكومي، فإن لم تسقط فعلى الأقل يضمن نبيل القروي وجود حكومة ضعيفة أشبه ما يكون بحكومة تصريف أعمال دائمة لا تقدر على حل الملفات الكبرى خاصة منها ما تعلّق بالفساد وعلاقة السياسة بالإعلام.
رئيس الحكومة هو المركز الأقوى في السلطة التنفيذية
صحيح أن وصول رئيس الحكومة للقصبة يمر، حسب الدستور التونسي، عبر مراحل صعبة خاصة في ظل تشرذم حزبي داخل البرلمان إبتداءا من التعيين مرورا بالتفاوض مع الأحزاب وصولا إلى مرحلة المصادقة، مما يجعله في بعض الأحيان في موقف ضعف تحت رحمة موافقة الأحزاب داخل البرلمان، لكن لا ننسى أن رئيس الحكومة ليس كما قبل مصادقة البرلمان كما بعدها، وهو ما أثبتته التجربة مع كل من السيد الحبيب الصيد و يوسف الشاهد، فالأول عجز رئيس الحزب الذي عيّنه المرحوم الباجي قائد السبسي على إجباره على الإستقالة، بل بالعكس، الحبيب الصيد هو من أجبر الباجي قائد السبسي ومن ورائه حزب نداء تونس للذهاب إلى البرلمان و المطالبة بسحب الثقة من حكومة الصيد وما عقب ذلك من تنازلات كبرى أقدم عليها الباجي لفائدة النهضة لإقناعها بإسقاط حكومة الصيد حيث مثّل ذلك البداية الحقيقية لانهيار حزب نداء تونس وتسليم مقود القيادة السياسية للحكومة لصالح النهضة بعد أن كانت هذه الأخيرة ممثلة فقط بمنصب يتيم في حكومة الصيد.
التجربة الثانية و التي أثبتت بما لا يدع للشك مجالا بقوة موقع رئيس الحكومة في علاقته بالأحزاب في المنظومة السياسية الحاكمة بتونس، هي تجربة حكومة يوسف الشاهد على مدار الثلاث سنوات الفارطة حيث كان تقريبا يوسف الشاهد هو المتحكم في الخريطة الحزبية وليس العكس، فمنذ إعتلائه سدة رئاسة الحكومة، جميع النواب و الشخصيات السياسية المنتمين لحزب نداء تونس و الذين تربطهم علاقات مصالح قوية بالشأن الحكومي، إلتفّوا جميعا وراء يوسف الشاهد وليكونوا القاعدة الأولية لحزب تحيا تونس الذي أحدثه الأخير بعد خلافه مع حافظ قائد السبسي.
عملية النفوذ و الإستقطاب العكسية بين رئاسة الحكومة و الأحزاب لم يكن ضحيتها فقط حزب نداء تونس بل العديد من الأحزاب التي كان لها حضور قوي في المشهد السياسي بعد الثورة كحزب المسار الذي خيّر القيادي سمير بالطيب الإلتحاق بالركب الحكومي على حزبه التاريخي، كذلك الحزب الجمهوري الذي تخلّى عنه إياد الدهماني، وغيرها من الأسماء ، ففي وقت ما كان هناك تمشي لاستقطاب القيادي بالجبهة الشعبية منجي الرحوي ولكن لم تكتمل العملية.
هذا الواقع الذي كرّس نفوذ وقوة موقع رئاسة الحكومة على حساب الأحزاب مردّه الأساسي ضعف العمل الحزبي باعتباره عمل سياسي مستجد على الحياة السياسية التونسية، مما جعل أغلبية النواب بالمجلس لا يعبرون بالدرجة الأولى عن رؤى قواعدهم في الحزب الذي ينتمون إليه، بل في حقيقة الأمر إهتمامهم الأول الدفاع عن مصالحهم الذاتية لأن الحكومة وحدها القادرة على تمريرها وهم أصلا غير مستعدين لإسقاط حكومة يعرفون جيدا أنها قد تكون مدخلا لإعادة الإنتخابات، وهو ما ذهب له العديد من النواب خاصة من كتلة الإصلاح الوطني الذين تحدّوا قرارات أحزابهم بعدم التصويت لحكومة الفخفاخ وقاموا بمنحها الثقة خوفا على مناصبهم التي قد تكون غير مضمونة في صورة إعادة الإنتخابات.
وين تحط نفسك تصيبها
إلياس الفخفاخ ليس دخيلا على السياسة وهو عارف بخبايا وكواليس السياسة التونسية وأغلب وزرائه المشاركين في الحكومة هم زملاؤه في حكومة “الترويكا”، وهو الآن يحظى بدعم قوي من قبل رئيس الجمهورية و من قبل المنظمات الوطنية الفاعلة كالإتحاد التونسي للصناعة و التجارة، وخاصة الإتحاد العام التونسي للشغل كشريك إجتماعي فاعل.
إضافة لذلك سيتسلم إلياس الفخفاخ حصيلة ليست بالسلبية بالرغم أنها كانت ستكون أفضل، إضافة لتحسن الوضع الأمني و استقرار أسعار المحروقات في العالم مع عدم وجود أعباء جبائية إضافية في قانون المالية لسنة 2020، وهي كلها عوامل إيجابية لبداية حسنة لهذه الحكومة.
يبقى الإنتظار الوحيد الذي ستجيب عليه قادم الأيام هو مدى قدرة إلياس الفخفاخ على قيادة هذه الحكومة و إعطاء النفس الحقيقي للإرادة السياسية لأن البرامج متوفرة و الكل يتحدث عنها ولكن ينقص إرادة الفعل السياسي خاصة فيما تعلق بالحرب على الفساد و التهرب الضريبي و تبييض الأموال، إضافة لفتح ملفات الصفقات العمومية و تفكيك اللوبيات المتمعشة من موارد الدعم الحكومي ومجابهة آفة التجارة الموازية .
إذا السيد إلياس الفخفاخ مهمته صعبة ولكن ليس في موقف ضعف كما تصور بعض الأطراف السياسية بل أداءه هو من سيحدّد مصيره بنفسه أو كما يقول المثل الشعبي ” وين تحط نفسك تصيبها ” فالفخفاخ يعرف ما عليه القيام به في المرحلة القادمة فإما أن يوفر لنفسه و أعضاء حكومته إرادة النجاح أو أن يتحمل أي إنزلاق عن هذا المسار .
شارك رأيك