هل يتعظ أهل السياسة في تونس مما وصلت له الدولة اللبنانية الشقيقة من إعلان عن إفلاسها، خاصة أن تونس تعيش تقريبا نفس مؤشرات الأزمة التي تفاقمت في بلاد الأرز، و إذا تواصل الاستهتار بمستقبلنا من قبل الطبقة السياسية فنحن ذاهبون حتما إلى نفس النتيجة، وهي عدم القدرة على سداد الديون الخارجية.
بقلم فيروز الشاذلي
لطالما تم وصف تونس ولبنان بالبلدين التوأمين لتقارب الخصائص المميزة لكل بلد حتى أن الكثير من المشارقة يعتبرون تونس هي لبنان المغرب العربي، خاصة أن جذور تاريخية تربط الجانبين منذ مغادرة عليسة لصور اللبنانية و تأسيسها لإمبراطورية قرطاج على السواحل التونسية.
هذا الترابط بين البلدين يجعلنا نرى مرآة مستقبلنا في تونس على ضوء ما يجري في لبنان خاصة أنها سبقتنا في خوض غمار الحراك الديمقراطي منذ سنوات خلت وشهدت انقساما سياسيا حادا يتشابه إلى حد كبير مع ما تشهده الساحة السياسية التونسية من تشرذم.
لذلك لا بد من أخذ الدرس و العبر مما وصلت له الدولة اللبنانية مؤخرا من عجز على تسديد ديونها الخارجية والإعلان المبطن لرئيس وزرائها حسام دياب عن إفلاس الدولة اللبنانية وطلب إعادة التفاوض مع الدائنين الدوليين لجدولة الديون المتعثرة.
فهل يتعظ أهل السياسة في تونس مما وصلت له الدولة اللبنانية الشقيقة خاصة أن تونس تعيش تقريبا نفس مؤشرات الأزمة في بلاد الأرز و نحن ذاهبون إلى نفس النتيجة الحتمية بالإفلاس وعدم القدرة على سداد الديون الخارجية إذا تواصل الاستهتار بمستقبلنا من قبل الطبقة السياسية.
صدمة إفلاس الدولة
كانت صدمة أشقائنا اللبنانيين كبيرة بتصريحات رئيس وزراء حكومتهم حسام دياب حينما أعلن عن عجز الدولة عن دفع ديونها و الدخول في مفاوضات مع الدائنين والشركاء الدوليين للوصول إلى الصيغة الملائمة للجميع، مما يعني ضمنا الدخول في حالة إفلاس مالي بسبب السياسات الاقتصادية و المالية المعتمدة على التداين المفرط وعدم وجود حلول جذرية بسبب الإنقسام السياسي الحاد.
لبنان الذي كان يعتز بإيراداته الخيالية من العملة الصعبة ويلقب بسويسرا الشرق أصبح تحت رحمة المفاوضات مع الدائنين وسيبقى خاضعا لهذه السياسة على الأمد المنظور للحصول على مزيد من الأموال هي عبارة عن ديون جديدة، بسبب الأزمة الخانقة التي يعيشها في ظل الاضطرابات الاجتماعية التي يعيشها حاليا.
تاريخ 12 مارس 2020 لن ينساه اللبنانيون بسهولة، فهو تاريخ أول عجز لدولتهم عن سداد القسط الأول المبرمج لهذه السنة تبلغ قيمته 1.2 مليار دولار، وهو ما يهدد بانهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار بأكثر من 40%، وسجلت الأسعار ارتفاعا قياسيا وفجئيا مما يعني أن الشعب اللبناني قادم على أيام صعبة وقاتمة.
المشكلة الأكبر في تتالي الاستحقاقات المالية هذه السنة الجارية عبارة عن سندات يوروبوندز يبلغ مجموعها 2.5مليار دولار: 1.2 مليار دولار في مارس، 700 مليون دولار في ماي، و600 مليون دولار في حزيران، إضافة للفوائد المستحقة على محفظة سندات اليوروبوندز بقيمة 2.18 مليار دولار تتوزّع على دفعات شهرية تتراوح بين 33 مليون و539 مليون دولار، مما يعني الدخول في كابوس حقيقي لإعادة هيكلة الدين العام.
للمفارقات أن هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان و التي من المفروض أن تجابه بوحدة وطنية جامعة أصبحت هي نفسها محل تجاذب سياسي وتبادل الاتهامات بين الأحزاب السياسية التي تقف على طرفَي نقيض بين من يريد الاستمرار في دفع الديون من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية التي في أغلبها ودائع المهاجرين اللبنانيين بالخارج، وبين من يرى ضرورة التوقف عن سداد الديون لكي لا تُهدر احتياطات مصرف لبنان على الديون رغم مخاطره السياسية التي قد تخضع لبنان للهيمنة الدولية، بينما الشعب اللبناني يجد نفسه ضحية معارك الأحزاب والطوائف السياسية المتناحرة.
هذه النتيجة المدمرة للاقتصاد و الشعب اللبنانيين كانت نتيجة تراكمات من السياسات الفاشلة عبر عقود عديدة في تماه كامل مع ما تشهده الساحة السياسية التونسية منذ حوالي تسعة سنوات من سياسة المحاصصة الحزبية والانقسام الحاد على أتفه الأشياء وهو ما ينذر بوصولنا إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الاقتصاد اللبناني، خاصة مع استفحال الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انتشار وباء الكورونا.
ديمقراطية خربها التشرذم السياسي و الفساد
يعتبر لبنان الدولة العربية الوحيدة التي كان لها سبق الدخول في المعترك الديمقراطي مبكرا لكن للأسف كان أهم معرقل لهذه الخطوات هو التشرذم السياسي فإضافة للانقسام الطائفي، حيث يوجد قرابة 18 طائفة داخل لبنان، نجد كذلك الانقسام السياسي الذي ينخر هذه الطوائف و يضعف جميع مؤسسات الدولة كالبرلمان ورئاسة الحكومة، مما أثر سلبا على الأداء الحكومي، فحكومة سعد الدين الحريري تواصلت مفاوضات تشكيلها قرابة السنة والنصف ولم تعمر بعد ذلك أكثر من سنة، بينما الأحزاب منقسمة تقريبا على كل الملفات والمشاكل المطروحة بل تم استيراد مشاكل الخارج إلى الداخل اللبناني كالمشكلة السورية، حيث إصطفّت أحزاب 14 آذار بزعامة سعد الدين الحريري وراء الموقف السعودي و التركي المناهض لنظام بشار الأسد وقوى 8 آذار بزعامة حزب الله وراء الموقف الإيراني الداعم للنظام السوري.
هذا التشرذم و الانقسام الطائفي الحاد في لبنان يتشابه إلى حد بعيد مع الانقسام السياسي و الإيديولوجي في تونس حيث كل ملف اقتصادي أو أمني لا يخضع للتحليل المنطقي والتقييم العلمي البحت بل يتم تناوله حسب المنطلق الإيديولوجي للحزب المعني فيصبح محل مناكفات لا تنتهي بين الأحزاب مما أضر بالمصلحة العليا للدولة التونسية.
هذا الانقسام لم يقتصر فقط على الملفات الداخلية الحارقة بل شمل كذلك إلى إسقاط المشاكل الإقليمية على الوضع الداخلي التونسي فنفس الانقسام اللبناني و الاصطفاف وراء الأطراف المتحاربة في سوريا نجده في تونس حاصلا من خلال الاصطفاف وراء الأطراف المتناحرة في الحرب الداخلية في ليبيا بين المعسكر الشرقي بقيادة خليفة حفتر والمعسكر الغربي بقيادة فائز السراج، هذا الانقسام يعتبر مرضا عضالا بالنسبة للديمقراطيات الناشئة، فعلى المدى البعيد سوف يهدد وجود وكيان الدولة في حد ذاتها.
ثاني معضلة أنهكت ديمقراطية لبنان وتجد لها جذورا كبيرة في الساحة التونسية هي معضلة الفساد، فلبنان يصنف من أكبر البلدان معاناة من آفة الفساد، فحسب العديد من المنظمات الدولية، معظم وزارات الدولة وإداراتها هي مرتع للفساد والهدر والمحاصصة الطائفية، وهي ظواهر هيكلية في صلب النظام لا يمكن التخلص منها بسهولة بل أصبحت ثقافة في الحياة اللبنانية ولا تقتصر على المجتمع السياسي وحده، بل تشمل السواد الأكبر من المواطنين.
يعتبر الفساد أحد أهم أسباب الأزمة الاقتصادية التي بلغت ذروتها هذا العام بلبنان وساهمت في ارتفاع الدين العام الى حدود 85 مليار دولار وعجز في الموازنة يصل إلى 11.5% من إجمالي الناتج المحلي ومستوى نمو يساوي صفرا في المائة.
عند التمعن في القطاعات الكبرى التي ينخرها الفساد في لبنان لا نجد فرقا كبيرا مع ما تعيشه تونس، فوفق دراسة أعدتها الشركة الدولية للمعلومات عن أبرز قطاعات تشهد فسادا بلبنان وأكثرها تكلفة على خزينة الدولة، تبين أن قطاع الصفقات العمومية والاعتداء على الأملاك البحرية وإيجارات الأبنية الحكومية والكهرباء هي مركز رئيسي للهدر والسرقة، ووفق تقرير للبنك الدولي فإن كلفة المحاصصة السياسية تتراوح ما بين 4 و5 مليارات دولار.
هذا التشخيص للفساد في لبنان لا يختلف كثيرا على ما يحصل في تونس فتقريبا نفس القطاعات وبنفس الحجم إن لم يكن أكثر وهو ما يؤكد أن ثمن السكوت على الفساد هو ثمن باهظ جدا وسيؤدي إلى تآكل خيرات الوطن و نخر مقومات الدولة ومؤسساتها من الداخل وصولا إلى مرحلة الإفلاس.
نار الهشيم تحيط بالدولتين
من أهم الأشياء المميزة للبلدين هي شدة التأثر بالعامل الخارجي خاصة بعد موجة الربيع العربي ومارافقها من اشتداد الصراع الإقليمي وحروب المحاور مما جعل بلدانا أقل نفوذا دبلوماسيا و ثقلا اقتصاديا تعاني من ويلات هذه الصراعات المسلحة في العالم العربي فنجد لبنان قد دفع غاليا ثمن الصراع الإقليمي في الجارة سوريا وكادت أن تنتقل الحرب السورية إلى لبنان لولا وقوف حزب الله و الجيش اللبناني أمام تمدد الجماعات الإرهابية بمنطقة عرسال الحدودية بشمال شرق لبنان، ونفس الأمر بالنسبة لتونس التي أصبحت تعاني اقتصاديا وأمنيا من الصراع الليبي الذي تحول إلى حرب محاور و استغلت الجماعات الإرهابية المنتشرة في التراب الليبي هذا الوضع لضرب تونس من خلال العمليات الإرهابية خاصة سنتي 2015 و 2016، وبعد ذلك حاولت القيام بهجوم توسعي لإقامة إمارة بمدينة بن قردان غير أن القوات العسكرية التونسية كانت لها الكلمة الغالبة وقامت بدحرهم في مواجهات 06 مارس 2016.
هذا الوضع الإقليمي بالعالم العربي كان له تداعيات اقتصادية كبرى على البلدين خاصة على مستوى قطاع السياحة وسبب هزات اجتماعية كبرى حيث ساهمت في عرقلة تطور هذه البلدان ودفعها لحافة الانهيار .
ديمقراطية التسوّل
من أهم عوائق الديمقراطيات الناشئة هي الأزمات المالية والتخلف الاقتصادي مما يجعلها في حاجة دائمة للداعمين الدوليين للبحث عن موارد مالية لتغطية عجزها المالي وهو ما يجعل هذه الدول في تسوّل دائم، في المقابل نجد الدول الداعمة دائما تبحث عن إنفاذ أجنداتها السياسية والتدخل السافر في هذه الدول الصغيرة كلبنان وتونس نظرا لأن الدول المقرضة أو التي تقدم هبات مالية هي تبحث بالدرجة الأولى عن رعاية مصالحها الخارجية، أي أنه لا يوجد إقراض أو هبات بلا ثمن سياسي تقدمه هذه البلدان المتعثرة اقتصاديا.
الإستفادة من الدرس اللبناني
تناول الدرس اللبناني ليس من قبيل التهويل بل هو من قبيل أخذ العبرة فنحن نسلك نفس الطريق الذي أوصلهم إلى أفق مسدود ودولة في وضعية إفلاس و لبنان القوي أصبح يعاني من تجربة التعدّدية المتشرذمة التي أصبحت عالة عليه. لا نريد هذا المصير لتجربة تونس الجديدة التي خاضها الشعب التونسي بفضل دماء شهدائه خاصة أن الوقت مازال يسمح لنا بتدارك أخطائنا جميعا سواءا أحزاب أو منظمات نقابية و قطاعات إقتصادية، فالمطلوب فقط هو التخلي عن الأنانية والمطلبية المفرطة و التفكير بما نحن قادرون على إعطائه لهذه الدولة التي نشأنا في كنفها وسيحيا أبناؤنا في رحابها.
شارك رأيك