إن الأزمة الصحية الحالية التي أحدثها تفشي وباء فيروس الكورونا في معظم بلدان العالم ومنها تونس مثل كل الأزمات الكبرى كفيلة بأن تكشف عن كل ما هو أصيل في الشعوب وللأسف تكشف كذلك كل ما هو سئ فينا، لكن لتكن إرادتنا أقوى في تغليب أصالتنا وقيم النخوة التي تكتسي جذورنا فبعد الخروج من هذه المحنة سوف نكتشف أننا صرنا أقوى بكثير.
بقلم فيروز الشاذلي
بعد إقرار المنظمة العالمية للصحة لفيروس كورونا كوباء عالمي وتفشيه في أكثر من 150 دولة حول العالم، وجدت عديد البلدان حتى المتقدمة منها كإيطاليا وفرنسا عجزا واضحا إلى حد الآن أمام مجابهة هذا الوباء بالرغم من امتلاكها أنظمة طبية وصحية متطورة جدا، حتى أن بلدا مثل إيطاليا يمتلك أكثر من 5000 سرير إنعاش أصبح الأطباء فيه يختارون بين من يقدمون له أجهزة التنفس الاصطناعية ومن يتركونه لمصيره يصارع الموت حسب مؤشرات الحياة الطبية خاصة عند كبار السن. لذلك مواجهة هذا الوباء العابر للحدود تتطلب إجراءات أكثر صرامة ولا يمكن للأجهزة الطبية الملقاة على عاتق الدولة أن تتحمل وحدها مكافحة سرعة انتشار هذا الفيروس.
أمام هذا الوضع لا يوجد لنا خيار في تونس سوى التعويل على خلق نوع من الوحدة الوطنية ودعم مجهودات أجهزة الدولة المعنية للتصدي لهذا الوباء خاصة الإجراءات الوقائية لمنع انتشار الفيروس وعدم الدخول في مرحلة الانتشار الواسع.
مجابهة وباء كورونا مسؤولية جماعية
انتشار هذا الفيروس القاتل أثبت أن المشكل ليس في قوة النظام الصحي وتوفر بنية تحتية من مستشفيات ومخابر متقدمة بل المشكل الأساسي هو كيفية توقيف سرعة العدوى الفتاكة لكورونا، لذلك فشلت البلدان الأوروبية في الحد من انتشار الفيروس في البداية لأنها تعاملت باستسهال مع هذا الوباء ظنّنا منها أن الأنظمة الصحية والبنية التحتية الطبية التي لديها كفيلة بالتصدي لهذه الآفة الخطيرة ولم تركّز على الإجراءات المرافقة المرتكزة أساسا على التصدي وقطع النسق التصاعدي للعدوى بين الناس، وهو ما يفسّر وصول هذه الدول إلى ذروة الإصابات في وقت قصير جدا، فالبلدان الأوروبية الثلاثة، إيطاليا ، فرنسا و إسبانيا، لم تستوعب رعب المشكلة إلا عندما وصل عدد الإصابات اليومي المسجل بين 500 و 1000 إصابة مؤكدة بتحاليل مخبرية، عندها فقط أدركت هذه الدول ضرورة اتخاذ إجراءات قوية لحماية مواطنيها وصلت إلى حدود فرض حجر صحي شامل على مواطنيها وإغلاق جميع الحدود البرية ، والجوية والبحرية وكذلك غلق جميع الفضاءات الجماعية من خدمات وغيرها و الإبقاء فقط على الخدمات الضرورية كالصيدليات وبيع المواد الغذائية للمواطنين.
بالنسبة لتونس، جميعنا يعرف واقع النظام الصحي والبنية التحتية في هذا المجال وليس الوقت مناسبا لفتح هذا الملف المعقد، ولكن الأكيد أن الإطارات الطبية في بلادنا والكفاءات العاملة في المجال الصحي والتي خيرت عدم ترك هذا البلد والهجرة نحو الخارج تسعى بكل جهدها للقيام بالإجراءات اللازمة للتصدي لتفشي فيروس كورونا، لكن بما أن التجارب في عديد البلدان الأوروبية المتقدمة أثبتت أن المشكلة الكبرى ليست في قدرة النظام الصحي وحده بقدر ما هي مشكلة انضباط وتطبيق الإجراءات الوقائية الجماعية خاصة المرتبطة بمنع انتشار فيروس كورونا عن طريق العدوى، لذلك مسؤولية مكافحة العدوى لا تقع فقط على جانب السلطات الرسمية بل تشمل جميع المواطنين بمختلف فآتهم و انتماءاتهم من خلال الامتثال إلى الإجراءات المعمول بها من قبل وزارة الصحة.
عندما يدرك كل فرد من مجتمعنا أن مسؤولية مكافحة انتشار الوباء تنطلق من مسؤولية فردية لتكون بعدها مسؤولية جماعية في معاضدة مجهودات الدولة، عندها فقط نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة في وضع حد لانتشار هذا الوباء الفتاك.
يجب أن يعرف كل شخص أن تصرفاته غير المبالية بإجراءات التوقي وخاصة مخالفة إجراءات الحجر الصحي لا تمثل خطرا فقط على صحته الشخصية بل تمثل خطرا كارثيا على أهم و أعز أشخاص في محيطه المقرب كأفراد عائلته، وهو أمر مازال لم يفهمه العديد من المواطنين بسبب قلة الوعي.
النموذج الصيني في التعامل مع الوباء مثال يحتذى به
يعيش الشعب الصيني الآن مرحلة من الارتياح بعد أن تمكن من السيطرة على سرعة انتشار الفيروس بعد أن كانت عدد حالات الإصابة اليومية بالآلاف وصلت بالأمس فقط إلى تسجيل إصابتين فقط بفضل تكاتف جهود الحكومة وتطبيق الإجراءات الفعالة من قبل المواطنين لاحتواء فيروس كورونا.
فقد قامت الحكومة في البداية بغلق كل منافذ الدخول والخروج من مدينة ووهان بؤرة تفشي الفيروس، ثم شرعت في بناء مستشفيين في 10 أيام بـــــ 2500 سرير لكل مستشفى مع تحويل 16 ألف ممرضا للعمل فيها ثم تولت الحكومة توجيه الحالات الأكثر خطورة إلى المستشفيات الأكثر تجهيزا إلى أن تمكنت الصين من تقليص سرعة تفشي الفيروس في حدود 2 حالات فقط يوم أمس 17 مارس 2020.
هذا النجاح لم يكن ليحصل لولا الإرادة الشعبية الجامحة في مقاومة الوباء من خلال بذل التضحيات و الإيمان بروح التضامن الشعبي لاحتواء الأزمة، علاوة على تجند الإطارات الصحية من خلال إرسال 42 ألف إطارا طبيا وآلاف المتطوعين لإيصال المواد الغذائية من خضر ولحوم للمواطنين إلى درجة لا تتأثر معها الحياة الطبيعية للناس المفروض عليهم الحجر الصحي.
هذه الإجراءات كانت نتائجها حينيّة و زادتها قوة الانضباط و التصميم فعالية حيث أثبتت أن للصينيين قدرات عالية جدا للتعبئة والتضامن في مواجهة المخاطر وبسرعة التعامل مع الأزمة، مما جعلهم ينالون الاحترام و الإعجاب من جميع شعوب العالم وأصبحت جميع بلدان العالم تتسابق لطلب المساعدة و الاستفادة من التجربة الصينية.
توفير مناخ من الهدوء الاجتماعي والوحدة السياسية
في ظرف الأسبوعين القادمين ستحتاج تونس إلى تضامن داخلي حقيقي بين التونسيين والتعامل كأمة واحدة ولنا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة في ذلك عندما قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”.
هذا التضامن يبدأ بتوفير مناخ من الهدوء الاجتماعي والوحدة السياسية بين مختلف المؤسسات الدستورية المربوطة مباشرة بإدارة الأزمة خاصة وزارة الصحة ومن ورائها الحكومة ورئاسة الجمهورية، علاوة على ذلك لا بد على المجتمع المدني من التحرك وبقوة لأن المصاب جلل ولا تقدر الحكومة لوحدها مقاومة تفشي الوباء، لذلك دور المجتمع المدني يبدأ أساسا بتهيئة تعبئة شعبية كاملة لتطبيق إجراءات الحجر الصحي وتوعية الفئات الشعبية بجدوى هذه الإجراءات وتنظيم عمليات التزود بالمؤن بدون فوضى وتسهيل عملية حصول مئات آلاف المتقاعدين على جراياتهم كما تم ذلك في عديد المعتمديات كسبيطلة وتستور بمبادرات من جمعيات المجتمع المدني.
كذلك دور مهم ينتظر المجتمع المدني بخصوص مساعدة الدولة في مجابهة الانعكاسات الاقتصادية على مختلف الشرائح الاجتماعية خاصة التي تأثّرت مباشرة بهذه الأزمة كعمال المقاهي والمطاعم وغيرها من أنشطة اقتصادية شهدت انتكاسة كبرى ليجد العديد من عمال هذه القطاعات نفسهم في بطالة إجبارية، لهذا يجب على المجتمع المدني لعب دور كبير في الإحاطة بهذه الفئات الهشة خاصة أن تونس تعد آلاف الجمعيات الموجودة في كافة أنحاء ولايات الجمهورية، وهذا في انتظار تفعيل دور صندوق مقاومة فيروس كورونا الذي أطلقته وزارة المالية والذي من المنتظر أن تساهم فيه جميع الأطراف الاجتماعية كالإتحاد العام التونسي للشغل ومنظوريه من الموظفين والعملة كما أن الجميع ينتظر المساهمة الفعّالة من قبل رجال الأعمال وتحسيسهم بدورهم الوطني في هذه الأزمة من قبل الإتحاد التونسي للصناعة و التجارة.
باختصار إن هذه الأزمات كفيلة بأن تكشف عن كل ما هو أصيل في الشعوب وللأسف تكشف كذلك كل ما هو سيئ فينا، لكن لتكن إرادتنا أقوى في تغليب أصالتنا وقيم النخوة التي تكتسي جذورنا فبعد الخروج من هذه المحنة سوف نكتشف أننا صرنا أقوى بكثير.
شارك رأيك