كورونا، ذلك الفيروس غير المرئي، سمّاه البعض عدوّا، وعدّه آخرون وباء، بينما فضّل آخرون تسميته بلاء، ومهما كان فهو قد أرعب العالم أجمع وجعله خاليا من أي تجمّعات، وأبعد تفكيرهم عن الحروب، وأوقف طائراتهم النفاثة التي تقتل الأبرياء في كل مكان. وكاد يجمع البشرية في جبهة واحدة…
بقلم فوزي بن يونس بن حديد
كل شيء في الدنيا كورونا، نُصبح ونُمسي على كورونا، حتى بِتنا نحلم بكورونا، ونتمتم به في نومنا، لعل الله يبعد عنا شبحه وخطره، أصبح هاجس الخوف على أشده، ولم يعد أحدٌ بمأمن منه: لا السياسيون ولا الفنانون ولا الرياضيون فضلا عن الناس العاديين… كلهم معرّضون، وكلهم ضعفاء خائفون، هوسٌ وخوْفٌ إلى حد الهلوسة، والوسوسة، ولهاث وراء توفير الحاجيات، وسعي دائم إلى تنظيف اليدين، خوفا من بقايا فيروس انتقل فجأة إلى اليدين، ما كان لهذا الفيروس أن يعيش لولا أنه صُنّف بأنه شديد الخطورة وسريع العدوى، أصاب أكثر من 100 دولة في العالم ولم يسلم منه إلا القليل. كيف ظهر ؟ أو من صنعه؟ ولماذا لا يوجد بعد لقاح له؟ كل هذه الأسئلة تسري في عقول الناس كسريان الدم في العروق، لا تجد جوابا مقنعا، بل تواجه طلبا متكررا: إلزمْ بيتك ولا تخرجْ إلا لضرورة قصوى.
14 يوما من العزلة و بعد؟
لم يتعود الناس على البقاء في البيوت، بل أُكرهوا على ذلك، لئلا يصابوا بالفيروس، والفيروس قادم لا محالة، يحصد الآلاف من البشر بين مصيب ومتوفّى، تزداد حالات الإصابات يوما بعد يوم، وحالات الوفاة في ارتفاع، وصارت إيطاليا أولى البلدان في العالم التي تشهد وفيات على الاطلاق بعد وفاة أكثر من 800 شخص في اليوم، وصارت ناقلات الجند تجوب شوارع روما وميلانو برفات العشرات والمئات يوميا تنقلهم إلى مثواهم الأخير، وأحباؤهم يودّعونهم من الشرفات، وما كان بالأمس وهما وخيالًا صار اليوم حقيقة مؤكدة، كيف بعواصم كانت تعج بالسكان والزائرين أصبحت اليوم مدن أشباح لا يتجول فيها إنسان، خوفا من عدوّ غير مرئي يصطاده، ليصبح في الحجر 14 يوما، ولا يلمس شيئا ولا يتصل بأحد، وإذا ظهرت عليه أعراض المرض فعليه أن يخبر الأشخاص الذين تواصلوا معه، فهو الكورونا الذي استطاع أن يجعل الناس في العالم أجمع خائفين يترقبون لقاحًا أو علاجا ليخرجوا من وحدتهم ومن عزلتهم، ومن كآبتهم.
من الخوف من الكورونا إلى مرض الاكتئاب
بعد أن حاصر كورونا الجميع في بيوتهم قسرا لا اختيارا، ماذا حصل؟ لا شك أننا أمام حالات من الناس، فمنهم من يصاب بالاكتئاب، لأنه لم يتعوّد على الحبس المنزلي، ولم يعد قادرا على المكوث أكثر في البيت، ومن مرض كورونا إلى مرض الاكتئاب تتجول هذه الفئة من الناس، وقد يصابون بالانفصام، وقد يؤدي ببعضهم إلى الانتحار، ومنهم من يستغل فرصة بقائه في البيت ليقترب أكثر من العائلة ويجلس مع الصغار، وتتبدى له الكثير من الأمور كانت غائبة عنه في الماضي، فيكتشف أنه قد ضيعّ الكثير من الوقت خارجا دون أن يصغي إلى أبنائه جيدا، وفرّط في الاستمتاع بطفولتهم، وصراخهم، وعذوبة أصواتهم وهم يمرون عليه يوميا، هذا يطلب شيئا وذاك يستفسر عن شيء، وهذا يصرخ ويبكي، والآخر مشاكس وعنيف، ومنهم من يضع برنامجا لأسرته، يستفيد منه الأطفال، حتى لا يتركهم على الهواتف النقالة والحواسيب، تأكلهم التقنيات، وتتآكل عقولهم وتتبلد، من كثرة ما ينظرون إلى الشاشات، فيأتيهم ببرامج مفيدة للجميع حسب قدرتهم العقلية وتفاوتهم في الاستيعاب.
ثورة في الحياة اليومية والعلاقات العائلية
وبعض الرجال حوّلوا وجهتهم إلى المطبخ ومساعدة نسائهم على الطبخ، أو تنظيف البيت أو نشر الملابس، أو غيرها من الأعمال، حتى لا يملّ من الجلوس في البيت وهو الذي تعوّد أن يخرج كل ليلة ليجلس في المقهى مع أقرانه ويبقى فيها بالساعات ولا يبالي بما تعانيه زوجه من مهمّات، وتذكر بعض النساء أنهن مارسن الأمومة بإتقان خلال هذه الإقامة الإجبارية في البيوت والمنازل واكتشفن أنهن ضيّعن الكثير من الأوقات بعيدا عن أطفالهن وهم في أيدي العاملات، أو تركهم يلعبون في الشوارع والطرقات.
هكذا كانت أحوال الناس وشأنهم وهم يقبعون في البيوت هذه الأيام، لا يخرجون إلا بمقدار. ألزمهم السيد كورونا بالعمل على الحفاظ على النظافة وتطهير البيئة التي يعيش فيها الإنسان، فلا دخان ولا شيشة ولا دخان المصانع والشركات، حتى يعيش الإنسان بأمان، وما كان ليفعل ذلك لولا عبث الإنسان، واستهتاره بالبيئة التي يعيش فيها ومنحها إياه الرحمان.
كورونا ذلك الفيروس غير المرئي، سمّاه ترامب عدوّا، وعدّه آخرون وباء، بينما فضّل آخرون تسميته بلاء، ومهما كان فهو قد أرعب العالم أجمع وجعله خاليا من أي تجمّعات، وأبعد تفكيرهم عن الحروب والدمار، وأوقف طائراتهم النفاثة التي تقتل الأبرياء في كل مكان، هدأت حركة الطيران التي كانت تغزو الفضاء، حتى ناسا أوقفت تجاربها في الفضاء، وأبعد عنا شبح الخلافات، ومزق كل التأويلات، كورونا ذلك الفيروس الذي استحق جائزة نوبل للوباء، فقد احتل المرتبة الأولى وفاز على كل الفيروسات التي مضت في عالمنا وكوكبنا.
* صحفي ومحلل.
شارك رأيك