منذ اجتياحه للعالم أثبت فيروس كورونا أنه لا يفرق بين بلد غني وبلد فقير فجميع الدول ظلّت عاجزة أمام سرعة إنتشاره حتى الدول المتطورة على مستوى المنظومات الصحية لم تقدر على مجابهة الأعداد الهائلة من حالات الوفاة رغم طاقة هذه البلدان الرهيبة في التعبئة، لذلك من المستحيل الوصول إلى حلول فردية على مستوى الدول بل الوضع يتطلب تعبئة دولية على مستوى الإنسانية قاطبة، وهو الإطار الذي تندرج فيه المبادرة التونسية التي أطلقها رئيس الجمهورية قيس سعيّد بضرورة عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لاتخاذ قرارات فورية ملزمة تحت الراية الأممية تكون لبنة أولى لخطةدولية لمجابهة فيروس كورونا الذي أصبح يشكل تهديدا للبشرية جمعاء.
بقلم فيروز الشاذلي
في هذا الصدد، خارطة العالم الجيوسياسية تتغير وبالسرعة القصوى خاصة مع بروز الدور الصيني في هذه الأزمة العالمية مع شبه غياب كلي للدور الأمريكي المعتاد على الصعيد الدولي، أما الدول الأوروبية فهي غارقة وشبه عاجزة أمام هذه الجائحة ولم تجد العون و المساعدة إلا من قبل الصين. لذلك يجب التنسيق بالشكل المناسب مع الشريك الصيني لتونس في تقديم هذه المبادرة الأممية خاصة أن الصين عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وهي الفاعل الدولي الأول في مجابهة هذه الجائحة بعد أن نجحت في التحكم وتوقيف سرعة إنتشار الفيروس داخل الصين.
الرئاسة التونسية تعمل على كسب دعم الدول الصديقة لمبادرتها
تقوم المبادرة التونسية التي أطلقها الرئيس سعيد بالدعوة إلى عقد إجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي وتقديم مشروع قرار لعرضه على المجلس من أجل البحث عن حلول على المستوى الأممي لمقاومة تفشي جائحة كورونا من خلال الدعوة إلى بذل جهود دولية لمنع تأثير انتشار الفيروس على السلم و الأمن الدوليين وخاصة في مناطق النزاع.
من جهة أخرى يحث القرار جميع الدول والجهات الفاعلة على التنسيق بخصوص امدادات الاغاثة الإنسانية و أعوان الصحة، فضلا عن دعم المنظمة العالمية للصحة لمواصلة دعمها العملياتي للحكومات و الشركاء حتى تتمكن من الإستجابة للحاجيات ومن تطوير علاج لهذا الفيروس القاتل.
لكسب التأييد وحشد الدعم لهذه المبادرة قامت رئاسة الجمهورية باتصالات كثيفة خلال هذه الأيام مع ملوك ورؤساء دول شقيقة وصديقة من العالم العربي، الإفريقي و الأوروبي خاصة من أجل معالجة هذه الجائحة العالمية يكون فيها الدور المحوري للأمم المتحدة وفق مقاربة عالمية.
سقوط العولمة في مفهومها التقليدي
تداعيات فيروس كورونا المستجد سوف تكون عبارة عن حدوث تغييرات عميقة سيشهدها العالم بأسره، تغييرات ستطال البنية الهيكلية للعولمة التي نعيشها و بالتأكيد سوف تسقط ثوابت المجتمعات الحديثة المبنية على الرفاه الإستهلاكي ومفهوم التنمية المستديمة كمقياس للمجتمعات المتحضرة.
نحن الآن أمام حقيقة عجز السلطات القائمة في الغرب عن التحكم في هذه الجائحة المهددة للجنس البشري برمته، فرغم المنظومات الصحية الخارقة الموجودة لديها كجل البلدان الصناعية الكبار كالولايات المتحدة، فرنسا و إيطاليا أثبتت فشلها في أن تكون حصنا منيعا أمام انتشار هذا الفيروس بهذه البلدان، لذلك ما إن تنتهي هذه الأزمة سوف تكون موضع مراجعة جذرية و إعادة هيكلتها وفق نماذج جديدة تراعي المنظومة القيميّة للإنسان كمحور الحياة على هذا الكوكب وليس المادة.
مفارقة أخرى أحدثها هذا الوباء تتجلى في عجز الأنظمة القائمة على حماية الحريات و الحقوق الفردية وهي بالأساس الأنظمة الديمقراطية الغربية في توفير الحماية الجماعية لمجتمعاتها كما فعلت أنظمة قائمة على نوع من الاستبداد على مستوى الحريات الفردية في مقابل النجاح على مستوى حماية المجتمع ككل وهو ما نجده في المثال الصيني حيث انطلقت الأزمة بانتقاد شديد من الدول الغربية لتعامل السلطات الصينية بشكل زجري مع المواطنين وفرض الحجر الصحي العام بكل قوة كحماية جماعية للشعب الصيني و إذا بالبلدان الغربية في نهاية المطاف تسلم بجدوى الإجراءات الصينية بعد فشل المنظومة الغربية في كبح إنتشار فيروس كورونا.
تغير الخارطة الجيوسياسية للعالم
لا شك أن الخارطة الجيوسياسية لعالمنا المعاصر لن تكون كما كانت قبل فيروس كورونا بل ستكون هذه الأزمة نقطة مفصلية في رسم ميزان قوى جديد على المستوى الدولي بداية بترسيخ الصين كدولة عالمية قوية أثبتت قدرات غير عادية من حيث سرعة ردة الفعل القياسية لجميع هياكلها ومؤسساتها من منظومة صحية متطورة استطاعت في ظرف وجيز التكيف مع المعطيات الصعبة التي فرضها فيروس كورونا كما أن الجيش الصيني أثبت بما لا يدع مجالا للشك قوّة رهيبة في تفعيل الحجر الصحي بكل انضباط وتمكن لوجستي لعشرات المقاطعات الصينية التي تعد كل واحدة عشرات الملايين من السكان.
هذه الأزمة الوبائية التي تشبه كثيرا مواجهة الحروب كانت امتحانا سقطت فيه عديد البلدان التي كانت تعد القوى الرئيسية في العالم الغربي سواءا على مستوى التقدم التكنولوجي أو قوّة النفوذ الجيوسياسي.
هذا التوصيف ينطبق بالأساس على البلدان الأوروبية كفرنسا و إيطاليا التي تعد من البلدان الصناعية السبعة الكبار التي أثبتت أنها تعيش تقهقرا ليس فقط على المستوى الإقتصادي بل على جميع المستويات خاصة على مستوى المنظومة الصحية و الهشاشة الاجتماعية التي جعلت من هذه الدول عاجزة عن القيام بردة فعل قوية تجاه هذه الأزمة الصحية .
هذه البلدان مثل إيطاليا أصبحت الآن تطلب بإلحاح المساعدة الصينية و الروسية بعد أن وجدت الصد من البلدان المنضوية تحت راية الإتحاد الأوروبي حيث خيّرت في الأخير كل دولة الإهتمام بمشاكلها الداخلية، وغياب التضامن الأوروبي في خضم هذه الأزمة ستكون له انعكاسات كبرى على مسيرة الإتحاد مستقبلا بعد أن أيقنت عديد الشعوب بوهم وحدة المصير الأوروبي.
تونس أمام حتمية إدراك المتغيرات العالمية
هناك عاملان محددان لتطور الأمم، الأول متعلق بتطور المسار الجيوسياسي العالمي ومفاعيله الإقتصادية، و العامل الثاني وهو الأهم سرعة إدراك هذه المتغيرات و العمل على كسب الوقت من خلال التأقلم مع التطورات الجديدة، لذلك يجب تطوير الرؤية الدبلوماسية والإقتصادية التونسية نحو الإستفادة من التجارب التنموية الصاعدة على المستوى العالمي كالتجربة الصينية، الكورية أو الهندية وعدم الاقتصار على الفضاء المتوسطي الأوروبي فقد تبيّن أن الإقتصاد التونسي بعد سنة 2007 أصبح يعاني مشاكل هيكلية عدة بسبب تبعيته الكاملة للاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من الانكماش و الإنحصار.
ربما مبادرة التعاون الصيني التونسي لمقاومة وباء كورونا من خلال المساعدات الصينية المقدمة في الغرض أو التنسيق بين البلدين فيما يخص المبادرة الأممية في الأمم المتحدة ستكون بمثابة قاعدة عمل مستقبلية يتم استغلالها لمزيد الشراكة الحقيقية بين البلدين نستطيع من خلالها الاستفادة من مميزات قوة الاقتصاد الصيني كالاستثمارات الصينية الضخمة بالعملة الصعبة، نقل التكنولوجيا وخاصة فتح أكبر سوق استهلاكية في العالم أمام الصادرات التونسية خاصة أن تونس تعاني منذ سنوات عديدة من عجز هيكلي في التعاملات التجارية مع الصين بقيمة خمسة آلاف مليون دينار وهي تأتي في المرتبة الأولى من ضمن البلدان التي نعاني من عجز تجاري معها بسبب تلكؤ السياسات العامة في العمل على استغلال الفرص المتاحة للتعاون الإقتصادي مع هذا البلد العملاق.
شارك رأيك