في الوقت الذي ينشط فيه الوباء وينتشر بقوة، تنشط على الفايسبوك وتنتشر بنفس القوة تدعو إلى التضامن مع الفئات الهشة. Pages sponsorisées صفحات مدعومة. نعم ثمة من يدفع النقود والعملة في هذه البلاد بغاية دفعنا إلى التبرع والهبة. إنها صفحات فايسبوكية، ذات طابع دعائي واضح، تغزو الفضاء الأزرق وحائطك الفايسبوكي دون استئذان. فهي تروج لـ “بضاعة” التضامن بنداءات حلوة، وبخطب معتصمة بحبل الدين، وبأنشطة تظهر “المجتمع المدني” يجمع مواد ألوانها زاهية، وبصور وفيديوهات تشهر وجوه باسمة تقدم الإعانات، إلى غير ذلك من أوجه التفنن في “الاغراء”.
بقلم فتحي الهمامي *
وبدون شكّ يلقى (عموما) هذا الجهد الالكتروني في سبيل التضامن الشكر والترحيب، من قبل الجمهور الفايسبوكي. كيف لا؟ إذ تقيم تلك التعبئة الدليل الساطع على حس انساني رهيف لأصحابه. وتظهر نبذة من الشعور القوي عندهم فيه من الإيثار والغيرية الكثير، خاصة في هذا الظرف المتسم باكتساح الوباء وتعاظم آفتي الفقر والفاقة.
ولا شك – من ناحيتي – أن تحرك العاطفة الانسانية محمود في هذه الظروف، خاصة عندما تكون في إطار معاضدة جهود الدولة للتخفيف من الأعباء والصعوبات الاجتماعية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا.
و ثمة من في مجتمعنا من يناديه الواجب الإنساني الآن، فيقدم – بصفة فردية – المساعدة على وجه الاحسان، دون أن يبتغي مقابلا، فقط رضا النفس وراحتها. كما تقوم جمعيات، في أوقات الشدة هذه، تعرف بجديتها وانضباطها للقانون بعمل جبار في المجال الإنساني، أذكر هنا الهلال الأحمر التونسي.
هل ثمة فعلا عمل إنساني مشبوه؟
ولكن من جهة أخرى، من حق الشاكّ والمُرْتَاب أن يسأل : هل تخضع – فعلا- تلك المبادرات (المروجة في الفايسبوك) إلى مبدأ التضامن الإنساني ومعانيه؟ هل هي سليمة – فعلا- من التوجيه ومن التوظيف والاستثمار؟ وهل هي آمنة من التلاعب؟ وهل …؟ وهل…؟
لأول وهلة يبدو أن في الأمر قراءة في النوايا (من قبلي). وقد يتهمني البعض بالوَسْوَاس. ولكن تلك هي اليقظة المواطنية، التي تدفع نحو الاستفسار وطرح السؤال. فالموسم (الوباء من جهة والعُسْر من جهة أخرى) يبدو مناسبا للزرع في انتظار الحصاد الوفير فيما بعد.
فما بالعهد من قدم شكَّلَت المساعدة الانسانية و العمل الخيري رافعة مهمة لحصد أصوات الناخبين و تحقيق مكسب انتخابي مُهِمّ لفائدة “مبادرة انسانية” في انتخابات 2019.
كما شكَّلَ العمل الخيري (عامي 2012 و 2013) مِنَصَّة وَثْب لمشروع ماضوي، استغل النشاط الانساني لترويج أفكاره و للتعبئة الأيديولوجية.
وفي كلا النموذجين تبيَّنَ أن غياب الدولة ومؤسساتها، المقترن بحالة القبول لتلك المبادرات الانسانية وباحتياجات الناس إلى الإغاثة، أفضل مساعدة لهما للوصول إلى أهدافهما.
وليس جديدا القول إن عددا من “الجمعيات” في تونس قد فاحت منها سابقا الشبهات، بين جمعيات ذات أجندات أجنبية تكفيرية أنفقت المال على مساعدات (مادية وعينية) للاقتراب من العقول و” دمغجتها “، وجمعيات استعملت (المساعدات) لإخفاء قضايا تهرب ضريبي وتبييض أموال، وأخرى أخفت الطابع السياسي والمصلحي للظفر بأصوات فقراء بعد أن اشترت كرامتهم.
لا يجب ترك الحبل على الغارب
لهذا ليس من السبيل أمام الدولة وهياكلها (كتابة الحكومة خاصة) سوى الانتباه إلى هذا الانفلات الذي ينبىء بتطويع الإنساني في سبيل غايات ذات طابع أناني، فلا تغض الطرف عنه ولا تبقى في وضع المتفرج عليه.
إن الجهد الرقابي من شأن الدولة أساسا (كتابة عامة للحكومة خاصة) وعليها أن تطبق القانون بقوة ضد من يخالفه. فكيف يسمح اليوم لـ “جمعيات” بجمع المال دون استرخاص؟ وكيف تدعي جمعيات أنها في شراكة مع الدولة أو جماعات عمومية لكي يتاح لها جمع المعونات؟ وكيف يستعمل مال العملة الصعبة لإشهار صفحات الفايسبوك؟ وكيف لا تتم حماية كرامة الناس من التعدي عليها؟ وكيف…؟ وكيف…؟
ولعل ما أتاحه قانون الجمعيات (مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011) للجمعيات من حرية للعمل الجمعياتي (وهذا مكسب هام) لا يعفي الدولة من متابعة نشاطاتها ومراقبتها، في إطار الديمقراطية ومجتمع الحرية.
فالفصل 3 (من المرسوم) يفرض أن تحترم الجمعيات في نظامها الأساسي وفي نشاطها وتمويلها مبادئ دولة القانون والدّيمقراطية والتعددية والشفافية والمساواة وحقوق الإنسان كما ضبطت بالاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف الجمهورية التونسية، والفصل 39 يطلب أن تمسك الجمعية محاسبة طبق النظام المحاسبي للمؤسسات.
فهل تحترم كل الجمعيات – فعلا – مبادئ الديمقراطية في تسييرها وشروط الشفافية في معاملاتها؟ من ضمنها تلك المقترنة بالشأن الديني، أو تلك التي ترتبط بأنشطة مراكز نفوذ مالي أو إعلامي؟ هذا إذا لم تنتصب فوضويا “جمعيات” في ظل هذه الأزمة الصحية والاجتماعية.
بطء الدولة منفذ للعمل “الإنساني” الفوضوي
لا مندوحة أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة بسبب الجائحة تمثل مكسبا لدى البعض ليتاجر بمآسي الناس لأغراض إما شخصية أو فئوية. والحق تعمل الدولة جاهدة على معالجة تلك الأوضاع، بالانطلاق فعلا في إجراءات مد يد المساعدة للمحتاجين.
وهنا نذكر الدور الجبار الذي يلعبه الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي في هذا المجال. و لكن تبين أن ذلك غير كاف بسبب بطء مؤسسات الدولة في تسيير المعونات بكميات كافية قصد تأمين المؤونة والقوت الغذائي. فالحق في الغذاء من الحق في الصحة. فلا بد إذن أن تجد المساعدات الحكومية طريقها إلى الميدان لتأمين قوت من يحتاجها.
ومن مظاهر ذلك البطء تعثر برنامج وزارة الشؤون الاجتماعية الطموح الذي قرر قبول وتجميع وتوزيع المساعدات العينية على الفئات الاجتماعية الهشة بإشراف لجنة وطنية والذي فوض لكل لجنة محلية بقيادة المعتمد وعدد من المتدخلين قبول الهبات والمساعدات ثم توزيعها بعد ضبط قائمة المستحقين.
والحق يقال فان هذا البرنامج كان أعد بدقة وبتواريخ مضبوطة وفيه ما يكفي من الشفافية.
لهذا قبلت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان الإسهام فيه (بتنشيط حملات التبرع أو بالملاحظة). ولكن لماذا هذا التعثر في الإنجاز (وقد تم تجاوز التواريخ المضبوطة)؟ وأين الحملة الدعائية في وسائل الاعلام العمومي للحث على التبرع وللإعلام بمراكز التجميع؟ وهل ثمة – يا ترى- من يعطل ذلك البرنامج الطموح لترك المجال واسعا أمام العمل “الإنساني” الموازي؟ ننتظر الإجابة.
* ناشط من المجتمع المدني.
نماذج من صفحات مشبوهة:
شارك رأيك