إنّ العالم حوالينا يتطوّر كلّ يوم، فما بالك عالم ما بعد وباء الكورونا؟ وعليه، من يرفض الانخراط في المتغيرات لن يكون له مكان فيه. من ذلك ضرورة الإخراط في منظومة التدريس عن بعد…
بقلم مراد بن جلول *
تمثل منظومة “التدريس عن بعد” آلية ناجعة لمواكبة الحداثة وهي منظومة تحكمها تراتيب وضوابط علمية وقانونية لا بدّ من توفرها حتى يمكن إدراجها ضمن المسالك الرسمية والإجبارية للتدريس. والمتأكد اليوم أن هذه الشروط غير متوفرة في بلادنا، لكن الظرفية الاستثنائية التي نعيشها حاليا، أملت علينا الاعتماد عليها لضمان حد أدنى من التواصل مع الطلبة والمرافقة البيداغوجية لهم من خلال عدة أشكال وباعتماد عدة وسائل اتصال سواء عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي أو عن طريق إحداث مواقع على شبكة الانترنت أو باستغلال منصة الجامعة الافتراضية أو باعتماد بعض التطبيقات التي تمكن من التحاور المباشر مع الطلبة على غرار تطبيقة “زوم” أو “سكايب” أو غيرها.
وبالرغم من إيماني الشديد بأنّ الدرس الحضوري يبقى القاعدة الأساسية للعملية التعليمية، بالنظر إلى أنّ منصة الجامعة الافتراضية تفتقد لآلية تسمح بالتفاعل المرئي المباشر بين الأستاذ والطالب، إلاّ أنّني أعتبر أنّ هذه المنظومة أصبحت اليوم وسيلة أساسية مكمّلة للدرس الحضوري الذي يقدّم في الظروف العادية، وقد تصبح ضرورية فيمكن اللجوء إليها خاصّة في الظروف الاستثنائية كالتي تعيشها البشرية اليوم جرّاء أزمة فيروس كورونا، وذلك كي تقوم مقام الدروس الحضورية التي تعذّر إنجازها.
وقد وجدت بعض الدول الأوروبية نفسها حاليا مضطرّة إلى الاعتماد على هذه المنظومة التعليمية، وذلك كبديل ممكن يقلّص من الانعكاسات السلبية لتوقف الدروس على التكوين العلمي والبيداغوجي للتلامذة والطلبة، فقد قررت فرنسا مثلا إكمال السنة الجامعية وإجراء الامتحانات عن طريق المنصّات الافتراضية، لذلك، يمكن اعتبار التدريس عن بعد ضرورة لا بدّ من دعمها في المستقبل القريب، وبالتالي، لا بدّ من إعداد خطة كاملة لتأهيل الأساتذة والطلبة للانخراط فيها وكذلك تأهيل البنية الاتصالية للبلاد وتطوير منظومة وبنية منصّات الجامعة الافتراضية لتواكب هذه المستجدّات.
لماذا أتبنى هذا الموقف المساند للتدريس عن بعد
1- عندما بادرت بالتسجيل بمنصّة الجامعة الافتراضية وشرعت في التكوين بمرافقة من زميل مختصّ كلّفته الجامعة الافتراضية بتكوين أساتذة كلّية العلوم الإنسانية والاجتماعية 9 أفريل بتونس، وجدت بعض الصعوبات والإشكاليات في التأقلم مع مكوّنات المنصّة، لكن، وبعد أسبوع من المتابعة، تمكّنت من وضع دروسي، وفي الأثناء، لاحظت نقطة إيجابية جدّا تتضمّنها منظومة المنصة، إذ تفرض على الأستاذ منهجية عمل بيداغوجية ومتطورة من ذلك وضع ملخّص وتحديد أهداف الدرس ووسائل الإيضاح، والأهمّ، هو تنزيل الدرس الذي سيصبح منشورا لعموم الطلبة. وهو ما يعني أنّ الأستاذ سيبذل جهدا إضافيا في تصميمه وتحديد مراجعه وتحيين معطياته الإحصائية، وبالتالي، هذا يعني أنّه سـ”ينتج” الدرس كمادة علمية خاصّة به. إلاّ أنّ هذه العملية تتطلّب جهدا خاصّا من الأستاذ وليس من السهل الالتزام بكلّ هذه الضوابط، لأنّ البعض من الأساتذة دروسهم غير جاهزة بالشكل المطلوب ولا تحترم المعايير المطلوبة للنشر على المنصة الافتراضية حتى وان كانت منجزة بطريقة سليمة وبيداغوجية.
الخلاصة، يمثل الانخراط في منظومة التعليم عن بعد بشكله الرسمي والقانوني عبر منصة الجامعة الافتراضية فرصة استثنائية للأستاذ كي يتأقلم مع التكنولوجيا الحديثة ومناسبة لا يجب التفريط فيها لتحيين مادته العلمية وتطوير طريقته البيداغوجية وآلية إضافية لمرافقة ومتابعة الطلبة في تكوينهم العلمي، بالنظر إلى أنّ الدرس الحضوري غير كاف وأنّ متابعة الطلبة عن بعد تمكّن الطلبة من مزيد تطوير مهاراتهم وتكوينهم.
2- على مستوى الطلبة، يعدّ الانخراط في هذه المنظومة انخراطا في الحداثة وفرصة لدعم تكوينهم العلمي، لكن، يكمن الإشكال الرئيسي في عدم تمكن شريحة هامّة منهم (لا يمكن تحديد عددها) من الانخراط فيها لاعتبارات موضوعية تتمثل بالخصوص في عدم امتلاكهم حواسيب أو هواتف ذكية. في هذه الحالة، أليس من الأجدر التفكير في إيجاد حلول لهذه المعضلة ووضع برنامج على مراحل لتمكين الطلبة المنتمين لعائلات محدودة الدخل من حواسيب بتضافر جهود كلّ الفاعلين والمتدخلين في المنظومة الجامعية، وأساسا مؤسسات الدولة والجماعات المحلية مع تشريك المجتمع المدني والمنظمات المهنية والمؤسسات الاقتصادية وغيرها، وفي رأيي، هذا التوجّه هو أفضل بكثير من الإعلان عن رفض المنظومة بأكملها بدعوى ضرورة الإنصاف بين الطلبة.
3- على مستوى الدولة وبالخصوص وزارات التعليم العالي وتكنولوجيا الاتصال: لا بدّ من ناحية، تأهيل البنية الاتصالية للبلاد وضمان تدفق عال للانترنت يغطّي كامل المناطق بما في ذلك المناطق الريفية البعيدة ومواصلة تمتيع الطلبة والأساتذة بمجانية الولوج لمنصّات الجامعة الافتراضية، ومن ناحية أخرى، تأهيل منصات الجامعة الافتراضية وتطويرها وتقويتها لضمان سلاسة في الاستعمال وتحمّل الضغط العالي المرتقب إثر تطوّر عدد المستعملين لها مع تنظيم دورات تكوينية للأساتذة والطلبة ولما لا إدراج جزء من المقرّر في برامج التكوين ضمن منظومة التدريس عن بعد.
إنّ العالم حوالينا يتطوّر كلّ يوم، فما بالك عالم ما بعد الكورونا؟ وعليه، من يرفض الانخراط في المتغيرات لن يكون له مكان فيه.
* أستاذ محاضر بجامعة تونس، مدير قسم الجغرافيا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس.
شارك رأيك