في هذا المؤلَّف الصغير الحجم والعميق المضامين، الصادر باللغة الإيطالية من تأليف أحد أبرز الوجوه الإعلامية في الأوساط الكاثوليكية، الكاتب والصحفي جان فرانكو سفيدركوتسكي، رئيس تحرير صحيفة “لوسّرْفاتوري رومانو” الأسبق، اللسان الناطق باسم حاضرة الفاتيكان، يحاول المؤلّف تقديم حوصلة للسنوات الخمس من بابوية حبر الكنيسة خورخي ماريو برغوليو المعروف بفرنسيس.
بقلم عزالدين عناية
استعرض صاحب الكتاب فلسفة البابا القادم من أقاصي جنوب العالم من الأرجنتين، ومبرزًا مدى نجاحه وإخفاقه. لقد ورث البابا الحالي فرنسيس تركةً ثقيلة خلّفها البابا المستقيل راتسينغر، كنيسةً ترهقها البيروقراطية ويحاصرها الجمود ويستشري فيها الفساد. قدِم البابا فرنسيس محمَّلا برسالة ثقيلة، تتلخّص في خوض إصلاحات عاجلة داخل الكنيسة قبل الغرق، وهو ما بدأت تلوح نُذره.
يحاول سفيدركوتسكي في مستهلّ كتابه رسْمَ صورة عامة للبابا الحالي. منذ اعتلاء فرنسيس سدة بطرس (13 مارس 2013) سعى ليكون البابا المتفرّد بمسلكه ورؤيته. وهو يدرك مليّا أنّ موقعه الجديد في حاضرة الفاتيكان، يتغاير جذريا مع موقعه الأسبق كرئيس أساقفة على هامش المركز في الأرجنتين.
جعلت تلك العناصرُ فرنسيسَ يعوّل على خوض التغيير في ذاته قبل أن يخوضه في ساحة الواقع، الأمر الذي جعل منه في ظرف وجيز نجمًا إعلاميا ومحطّ أنظار وسائل الإعلام. صدرت في الأثناء مئات الكتب التي تناولت شخصه، وصار مدار حديث المتابعين للشأن الفاتيكاني، عن مسلكه الجديد، الصادم والمثير أحيانا. فهو البابا الذي أبى، منذ البدء، الإقامة في القصر الرسولي المنيف (مقر إقامة البابوات الرسمي) وأصرّ على السكنى في ديرٍ مجاور صغير، دير القديسة مارتا. ناهيك عن رفضه تقلّد الصليب المذهّب وإيثاره صليبا متواضعا، كما تخلّى عن السيارات الفارهة واختار أخرى شعبية رافعا شعار “كنيسة فقيرة لمؤمنين فقراء”، مستلهمًا في ذلك القول الإنجيلي “لا تستطيعون أن تخدموا الله والمال” (متى6: 24). الآن بعد مرور ما يفوق خمس سنوات على اعتلائه السدة البابوية، أي بعدَ أن “ذهبت الفورة وبقيت الفكرة”، يتساءل جان فرانكو سفيدركوتسكي (ص: 19) ما الذي وفّق فرنسيس في إنجازه وما الذي خاب في تحقيقه؟ فهل التَهَمت المؤسسة فرنسيس على غرار غيره من السابقين برغم الآمال والوعود المغرية بالإصلاح التي رافقت مجيئه؟
فتنة وصراع محاور و أزمة أخلاقية عاصفة
ثمّة من يتحدّث الآن عن فتنة زرعها فرنسيس، وثمة من يتحدّث عن صراع محاوِر داخل كنيسة روما؛ لكن الجميع يتّفق أن ما تحقّق من وعود الإصلاح، وهو مشروع ضخم، شيء ضئيلٌ، ولعلّ الأزمة الأخلاقية العاصفة بالكنيسة، بشأن الاعتداءات الجنسية على القاصرين من قِبل رجال الدين، التي انتشر أوارها في شتى أرجاء العالم المسيحي، قد هزّت بعمق كنيسة روما ولم تهدأ، وهي في الواقع قمّة جبل الجليد العائم المعبّرة عن أزمة بنيوية عويصة.
يرى سفيدركوتسكي أن “فولكلورية الإصلاح” التي انتهجها فرنسيس، دون الذهاب إلى أصل الداء، لم تقف حائلاً دون تراجع مصداقية الكنيسة في أعين الأتباع. فليس تغيير مؤسسة بحجم كنيسة روما رهْن فرد، مهْما علا شأنه، ومهْما ابتدع من أساليب في مخاطبة الناس بمنسكه ومسلكه وملبسه، فحاضرة الفاتيكان من ورائها جيش فعلي من العاملين والمتعاونين في شتى المجالات الدبلوماسية والمالية والإعلامية، واللوبيات المتنفذة والقوى المؤثرة الصانعة للرأي العام. وهي وبإيجاز، تملك كل الجيوش إلا جيش القوة العسكرية الجارحة.
وكما يلخّص سفيدركوتسكي شخصيةَ البابا “بالمؤكد فرنسيس شخصية كاريزمية وثورية. استطاع إنشاء شكل جديد في عيش الإيمان المسيحي. وخاضَ إصلاحا على مستوى السلوك الشخصي والعقلية والعلاقات مع الناس وتغيير القلوب. ووعدَ بتغيير في الحياة الراعوية… ولكن السؤال المطروح يبقى لماذا أثار عاصفةً من الجدل والنقاشات حتى غدا عنصر فُرقة داخل الأوساط الكاثوليكية؟ بلغت حدّ اتهامه بالهرطقة” في إشارة إلى الرسالة الموقّعة من قِبل 62 دارسا ولاهوتيا، ضمن محاولة سحب المشروعية من البابا، وهي سابقة خطيرة في تاريخ الكنيسة لم تشهدها منذ قرون.
البابا يقبّل أقدامَ مساجين وسجينات من بينهم إمرأة مسلمة
يحاول المؤلِّف في قسمٍ آخر من الكتاب تناولَ جدلية المؤسسة والفرد ضمن الإطار الفاتيكاني، قائلا: لم يشفع لفرنسيس مسلكه المتواضع، وهو يغسل ويقبّل داخل أحد سجون روما أقدامَ مساجين وسجينات من بينهم إمرأة مسلمة، ضمن مشهد درامي محبوك بعناية، أو وهو يلقي بباقة زهور في بحر جزيرة لمبيدوزا ترحّما على أرواح الغرقى من المهاجرين غير الشرعيين، أو كذلك معارضته عرضَ المباركة اللاهوتية للبيع في السوق الجيوسياسية، في إشارة إلى زيارة الرئيس الأمريكي رونالد ترامب الفاتيكان، بحثا عن تزكية توجّهه أكان في سياسته مع الأجانب أو في مواقفه المتشنّجة في مسرح السياسة الدولية. رغم كلّ ذلك انهالت على فرنسيس الانتقادات من كل صوب، من داخل الكنيسة وخارجها، وهو السلطة العليا على الضمائر وظلّ الله على الأرض في التصور الكاثوليكي. ففترة فرنسيس تشهد تشكيكًا في عصمة البابا بما ليس له نظير في العصر الحديث، فقد أضرّ الرجل بالكنيسة، بحسب البعض، بما يفوق ما أتاه من مسلك متواضعٍ مؤثرٍ.
يُلحّ المؤلف سفيدركوتسكي على إبراز أن سياسة الكنيسة تصنعها المؤسسة ولا يصنعها الأفراد مَهْما علا شأنهم، وهو الدرس العميق الذي لم يفقهه فرنسيس حدّ الساعة. ففي هذه النقطة يتلخّص جوهر الخلاف بين فرنسيس والمؤسسة، وهي النقطة التي جعلت البابا مدعاة للفُرقة كما يعنون المؤلِّف كتابَه.
شخصَنة مفرطة وصراعات نفوذ وفضائح مالية
وبرغم الضجيج الهائل في حقبة فرنسيس حول الشأن الكنسي، ثمة قضايا كبرى بقيت على حالها: منها الشخصَنة المفرطة للكرادلة، وصراعات النفوذ داخل الكوريا رومانا (الجهاز السلطوي الرئيس)، والفضائح المالية التي جعلت من حاضرة الفاتيكان تُصنَّف بالملاذ الآمن لتبييض الأموال والتهرب الضريبي، وفاتيليكس، وحوادث الاعتداء الجنسي على القُصّر من قِبل رجال الدين.
لا يغفل سفيدركوتسكي عن ذكر أن البابا يلقى آذانا صاغية في أوساط شرائح معينة من الناس، مثل العلمانيين (في مقابل من ليسوا من رجال الدين)، والغنوصيين، وفي أرجاء بعيدة خصوصا في جنوب العالم لا في المركز في الغرب. فخطاب فرنسيس خطابٌ مباشر، متميز بشحنة حماسية عالية ومنشغل حدّ الهوس بالفقراء والمشرَّدين والمهمَّشين. ذلك النجاح النسبي للبابا دفع العديدَ من الأوساط المناوئة إلى انتقاده بوصفه مروِّجا “لفولكلور أمريكا اللاتينية” في الغرب، وأحيانا اتهامه بالشعبوية والانزياح إلى الصفّ اليساري في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وهو خطابٌ يذكّر كنيسة روما بطروحات لاهوت التحرر الممقوتة. والواقع أن الوسط الاجتماعي الأمريكي اللاتيني الذي نشأ فيه البابا يملي عليه النظر إلى واقع الكنيسة ورسالتها من منظور مغاير للمنظور الغربي.
فقد عانت أمريكا اللاتينية طويلا ولا زالت من أوضاع الظلم والحيف. خلّفت في العديد من المناسبات ضحايا في صفوف الكنيسة على غرار اغتيال المونسنيور أوسكار آنولفو روميرو رئيس أساقفة سان سالفادور وهو يقيم القداس داخل الكنيسة، وسقط الراهب الأرجنتيني أنريك أنجيليللي صريعا أيضا في عملية مدبَّرة، واغتيل الراهب إغناسيو إلاكوريا رفقة خمسة من أساتذة جامعة أمريكا الوسطى. كما دفعت تلك الأوضاع بالمثل إلى انتهاج خيارات ثورية انخرط فيها رجال دين، لعلّ أشهرهم الراهب وعالم الاجتماع الكولومبي كاميلو تورّيس ريستريبو، سنة 1965، وانتمائه إلى صفوف “جيش التحرير الوطني” (ELN) ذي التوجهات الماوية، إلى حين استشهاده في فبراير من العام اللاحق. مثّل ذلك عنواناً لِما يعتري كنيسة أمريكا اللاتينية من تحولات، بظهور خطاب تحريري، بالمعنى الاجتماعي، لصيق بقضايا المهمَّشين، ومفعَم بالدلالات اللاهوتية. لذلك ما كان عسيرا على “لاهوت التحرر” تحوير مفهوميْ الخلاص والخطيئة وإعطائهما دلالات واقعية اجتماعية جنب تلك الدلالات الغيبية، ليغدو التحرر من الخطيئة بمفهومه الديني يوازي التحرر من الظلم والتخلف، ويرتقي بالرأسمالية إلى مصاف الخطيئة البنيوية.
تكشف مواقفُ البابا فرنسيس ومعارضتها الجامحة حدّةَ المركزية الأوروبية، كما يبيّن الكاتب (ص: 52)، التي ما انفكت متحكّمة بالقرار داخل الكنيسة الكاثوليكية، حيث تتواصل كما يقول سفيدركوتسكي هيمنةُ تفوّق “اللوغوس” الغربي، بوصفه المخوَّل الأوحد بتأويل الرسالة المسيحية. مع انتشار خشية من كنيسة هامشية، كنيسة أمريكا اللاتينية التي انحدر منها البابا، والتي كانت إلى سنوات قليلة حقلَ “أنْجَلة” وتبشير من الغربيين، أن تتحكّم بطريقة عكسية في المركز الذي أنشأها، مع أن الواقع المسيحي ككلّ يشهد تحولات ديمغرافية عميقة في ما يخص تطور أعداد المنتمين للكنيسة من عالم الجنوب وانحسار داخل الفضاءات المسيحية الغربية التقليدية، سواء على نطاق عامة الأتباع أو الكوادر الكَنَسية.
محاولات فرنسيس لتطهير الكنيسة خلّفت تداعيات على توازن القوى
يخصص سفيدركوتسكي محورا خاصا لأشرس حملة استهدفت البابا فرنسيس، مع ما حصل في الرابع والعشرين من سبتمبر من العام الماضي بالتنسيق بين أوساط أوروبية وأمريكية بإصدار وثيقة ضمت 25 صفحة بعنوان: “تصويبات بخصوص إشاعة الهرطقة” استهدفت البابا أساسا. كانت الوثيقة موقّعةً من قِبل 62 شخصية كنَسية وغير كنَسية من بينهم رجال دين متنفذين على غرار برنار فيلاي المسؤول الأول في تنظيم الأُخوة الرهبانية سان بيوس العاشر، التنظيم التابع للمونسنيور لوفابر المعروف بمواقفه المتشددة لتوجه الكنيسة اللاهوتي، وشخصيات مكلفة بالشأن المالي التابع لحاضرة الفاتيكان مثل إتور غوطي تيديسكي المدير السابق “للإيور” (بما يعادل وزارة المالية) في حاضرة الفاتيكان. تضمّنت الوثيقة المذكورة إدانة صريحة “إن البابا فرنسيس قد أثار بلبلة داخل الكنيسة وفي العالم في مجاليْ الإيمان والأخلاق، بما أصدره من ‘إرشاد رسولي’ متمثل في ‘أموريس لايتيتيا'”، وهي رسالة بابوية أعرب فيها البابا عن انفتاح تجاه قضايا المطلَّقين بقصد دمجهم مجددا في الجسد المسيحي، لقيت الرسالة معارضة شديدة. واعتَبرت وثيقة الانتقاد فرنسيس نصيرا لتوجه خطير داخل الأوساط المسيحية يحرّض على الفتنة والهرطقة (ص: 67).
في الواقع مثّلت محاولات فرنسيس لتطهير الكنيسة من المتنفّذين مثل الكردينال جيرار مولر المكلف الأسبق بـ”مجلس مراقبة عقيدة إيمان”، وهو بمثابة المحكمة الدستورية العليا، خطوةً جريئةً خلّفت تداعيات على توازن القوى، فقد اعتبر البعض عزل مولر مهينًا وفجًّا، حصل بعد لقاء مع البابا حاججه أثناءه بقول فصل: “بلغني اتخاذك موقفا معاديا لشخصي ولهذا سأعزلك”.
لقد سبق لفرنسيس أن شكّل “مجلس حكماء” متكوّنا من تسعة وجوه كَنَسية معروفة أغلبهم من جنوب العالم، بقصد تحجيم النفوذ الغربي داخل الكنيسة ولإتمام ما يصبو إليه، لكن ذلك المجلس بقي مشلولا ولم يتعدَّ دور الهيئة الاستشارية.
ربما الشيء الأبرز الذي تحقّق في عهد البابا فرنسيس وهو إنشاء ثلاث هيئات كُلّفت بالرقابة المالية استطاعت أن تحقّق نجاحا نسبيا في السنوات الأخيرة: في الثامن والعشرين من يونيو 2013 تم إيقاف المونسنيور نونسيو سكارانو، وفي الثاني من ديسمبر 2015 تم إيقاف المدعوَيْن لوشيو أنجيل بالدا وفرانشيسكا شوقي المتّهمين باختلاس وثائق على صلة بالشأن المالي، وفي السابع والعشرين من نوفمبر 2017 تم تسريح جوليو ماتييتي المدير المساعد لمؤسسة “الإيور” (ص: 73).
يبقى التحدي الأكبر للبابا فرنسيس متلخّصا في العجز حدّ الراهن عن وقف نزيف تآكل رأس مال الكنيسة الخُلقي في أوساط الناس، بسبب قضايا الاعتداءات الجنسية المتعددة على القاصرين. تفاقمت الأوضاع بأن طالبت أصوات بحجم رئيس الأساقفة كارلو ماريا فيغانو، القاصد الرسولي (السفير البابوي) في الولايات المتحدة، باستقالة البابا فرنسيس بذريعة تستّره على كرادلة مورَّطين في الفضائح الجنسية من بينهم الكردينال تيودور ماكاريك.
الآن كما يقول سفيدركوتسكي بدأ البابا فرنسيس يعي أسباب استقالة البابا راتسينغر الحقيقية، فكما تُلخِّص تلك القولة الساخرة الأمر: “أن يتولى شخص بمفرده شأن الإصلاحات داخل الكنيسة، كمن ينظّف تمثال أبي الهول بفرشاة أسنان”. يلخّص سفيدركوتسكي في خاتمة الكتاب ما تبقّى بحوزة فرنسيس من مناورة بقوله: لا يلحظ مراقبُ الكنيسة من خارج إصلاحات فعلية كبرى مسّت مؤسسة الكنيسة خلال سنوات بابوية فرنسيس، رغم الضجيج الهائل في وسائل الإعلام. صحيح يخوض البابا ثورةً، لكن هذه الثورة ذاتية ولم تَتَرجم في إنجازات فعلية حد الراهن. ثمة من يرى أن السلاح القوي المتبقي لدى فرنسيس في خوض لعبة استراتيجية داخل الفاتيكان بمنح جناح من يُسمَّون بالعلمانيين دورا فاعلا داخل الكنيسة، والمقصود بالعلمانيين في المدلول الكنسي جيش المتعاونين المدنيين مع الكنيسة في الأجهزة الإدارية وفي سائر الأنشطة عبر العالم، وعدد هؤلاء هائل وحاسم. في الواقع ذلك القرار الغائب من شأنه أن يقلب موازين القوى بشكل جذري داخل الكنيسة وهو ما تخشاه عديد الأطراف.
* أستاذ بجامعة روما – إيطاليا.
“هل البابا فرنسيس مدعاة للفُرقة؟” – تأليف: جان فرانكو سفيدركوتسكي – منشورات روبتّينو (كاتنزارو-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’ – 2020. 104ص.
شارك رأيك