صرخة من الأعماق دوّت في أرجاء جزيرة جربة مؤخرا، من الصغار والكبار والرجال والنساء والشباب، يطالبون المسؤولين في الدولة التونسية برفع المستوى الإداري لجزيرتهم إلى الولاية رقم 25 للبلاد التونسية وتكف عن تهميشها وهي من أثرى المناطق التونسية ثقافيا واقتصاديا.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
جربة هي تلك الجزيرة الواقعة في الجنوب الشرقي من البلاد التونسية، يحيط بها البحر من كل جانب وكأنه يحرسها من أي غزو خارجي، كانت محل أطماع الغزاة الأجانب، ولعل ملحمة الاسبان كانت الأشهر على الإطلاق حينما أرادوا احتلالها بالقوة في القرن السادس عشر ميلادي، إلا أن “الجرابة” آنذاك تحدوا الأسطول الاسباني بقوة الإرادة والعزيمة والإيمان والثقة بالله فهزموهم شر هزيمة وأخرجوهم أذلاء، ولم يعودوا إليها، لأن الجرابة أصحاب أرض، ومن حقهم الدفاع عن أرضهم بكل ما أوتوا من قوة، وظلت جزيرة جربة محل اهتمام من جميع الحضارات المتعاقبة، حتى قبل الاستقلال، وكانت تعتمد على نفسها في الدفاع عن حياضها معتمدة على رجالها الأشداء، رغم أنهم ظلوا مسالمين، إلا من اعتدى عليهم فإنه يلاقي منهم البأس الشديد.
ولاء تام للدولة التونسية في كل مراحلها
وبعد الاستقلال، اندمجت جزيرة جربة في الجمهورية التونسية، وأدرجتها الدولة الجديدة ضمن ولاية مدنين، كإحدى مدنها الكبيرة، ولم تمنحها صفة الولاية، وكانت الدولة التونسية طوال الفترة الماضية تنظر إلى الجزيرة نظرة خَشية وخِيفة من أن تطالب يوما باستقلالها عن تونس أو بفيدرالية الحكم الذاتي، ولكن الجزيرة كانت تعبر عن ولائها التام للدولة التونسية في كل مراحلها، ولم يعبر أهلها عما كانت تخشاه الدولة طوال أكثر من ستين سنة مضت، ولم يطالب أهلها حتى برفع المستوى الإداري للجزيرة إلى ولاية، رغم ما تتميز به من موقع جغرافي ساحر، وموارد بشرية وكفاءات علمية، وموارد طبيعية، وهدوء غير مألوف، ومواقع تاريخية وحضارية، وأسواق تقليدية جميلة وهواء نقي رائع…
تلك هي جزيرة جربة الغالية على نفوس جميع الجرابة وكل من زارها وأقام فيها، إلى جانب طيبة أهلها وكرمهم وحسن ضيافتهم، وهذا ما شهد له الأقربون والأبعدون، الزائرون والمقيمون.
ورغم هذه الجماليات التي تزخر بها جزيرة جربة، لم تلق طوال السنوات الثقيلة الماضية عناية تامة من الدولة، فلا بنية تحتية متماسكة، ولا تنمية حضارية رائعة ولا تشغيل لأبنائها، رغم أنها تدرّ أمولا طائلة للدولة من خلال السياحة وتوافد أعداد هائلة من السياح عليها، حتى حازت قلوب الزائرين من كل بلاد العالم، يقضون فيها إجازاتهم بعيدا عن الضجيج والصخب، حيث الهدوء الساحر، والفضاء السامر، والسماء الصافية في هجع الليل الساكن، فتهدأ نفوسهم، ويشعرون على إثره بالاستمتاع بالجو الرائع والطبيعة الخلابة، يا لها من رائعة من روائع العالم الكبير، وهي مع ذلك تقدّم الكثير والكثير للدولة التونسية على مدار السنوات الماضية.
محنة وباء كورونا همشت جزيرة الأحلام
ومع محنة كورونا أخيرا، بقيت جزيرة جربة على الهامش، فصنفوها بؤرة حتى خاف منها القاصي والداني، واتهموها بتصدير كورونا إلى المناطق الأخرى، بل إن الولاية التي تنتمي إليها رفضت استقبال مريض جاء منها، لأنه يحمل صفة جربي على سريره، ولأن المسار الذي أتى منه جزيرة جربة “الموبوءة” في نظرهم، فهل يعقل أن يتصرف ممرض وحده ويرفض استقبال سيارة إسعاف قادمة من جزيرة جربة إلى مركز الولاية التي تتبعها إداريا لأن جربة في نظره “موبوءة”، ولأن جربة المدينة التي يقطنها أكثر من 165 ألف ساكن لا تملك مستشفى جامعيا لأنها لا تحمل صفة ولاية.
وعلى إثر هذه المهانة التي تلقاها أهالي الجزيرة انتفضوا لجزيرتهم، وقرروا إقامة حملة وطنية رغم المحنة، تطالب الدولة برفع المستوى الإداري لجزيرة جربة إلى ولاية رقم 25، ولا يقبلون بغير ذلك محدثين تحركا سلميا مؤثرا عبر الفايسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وأقاموا عريضة إلكترونية إلى رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيّد ورئيس الحكومة التونسية السيد إلياس الفخفاخ، تجاوزت فيها التواقيع إلى حد الآن الـ3000 توقيع وهم مستمرون في هذه الحملة إلى أن تتحقق مطالبهم، فمن حقهم أن يسعدوا كما يسعد إخوانهم في الولايات الأخرى، ومن حقهم أن يكون لديهم جميع الإدارات التي توجد في الولايات الأخرى، ومن حقهم أن يكون لهم استقلال إداري ومالي كباقي الولايات ولا يجدون صعوبة في إدارة شؤونهم العامة والخاصة، كما هو الآن حيث يبعد مركز الولاية عن الجزيرة أكثر من 40 كلم ويسبب لأهالي الجزيرة المتاعب والمصاعب.
صرخة من الأعماق، دوّت في أرجاء الجزيرة، من الصغار والكبار والرجال والنساء والشباب، يطالبون المسؤولين في الدولة برفع المستوى الإداري للجزيرة إلى ولاية، ولتصبح جزيرة جربة الولاية رقم 25، وعندما نقول جزيرة جربة، فحدودها معروفة، وما هو خارجها لا يتبعها بالضرورة، وستبقى هذه الصرخة قائمة إلى أن يتحقق المطلب، وإذا استمر تهميش الدولة لها، وتهاونها ولا مبالاتها فإنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي طول الوقت، بل سيظلون يطالبون ويطلبون ولا يملوا من مطالبتهم أبدا.
* صحفي ومحلل.
شارك رأيك