كتب هذا المقال تفاعلا مع النقاش الذي يدور اليوم في جزيرة جربة حول موضوع إحداث ولاية جديدة وبطلب من بعض الأصدقاء أصيلي الجزيرة ممن تربطني بهم علاقات متينة أساهم برأيي الخاص في هذه المسالة بوصفي جامعيا مختصا في مجال التهيئة الترابية وخبيرا في مجالي الحوكمة والتنمية الترابية.
بقلم مراد بن جلول *
في البداية لا بدّ من الإشارة وأنّ طرح مسالة ترقية جزيرة جربة إلى رتبة ولاية كان موضوعا غير مسموح الحديث فيه لاعتبارات عديدة، منها الموضوعي ومنها الذاتي باعتبار وأنّ نظام الحكم إلى حدود 2014 كان نظاما قائما على المركزية السياسية التي لا تقبل أقلمة المجال (régionalisation du territoire)، وبالتالي فإنّ أيّ تقسيم من شانه تغذية الشعور بالذاتية كان مرفوضا.
والسؤال المطروح اليوم هل مازالت السلطة المركزية والطبقة السياسية في تونس تعتبران أنّ تناول هذا الموضوع بالدّرس يُعدّ من الممنوعات وأنّه يمثل خطا أحمر، أم أنّ الوضع قد تغيّر وبالتّالي، فإنّ الخوض في هذه المسالة أصبح أمرا مُستساغا؟
من وجهة نظري الشخصية، لا مكان في تونس اليوم لممنوعات باعتبار أنّ الدستور كرّس حريّة التعبير، ولا يمكن تصنيف أيّ موضوع مهما كانت حساسيته ضمن خانة المسائل التي لا يٌسمح بتناولها (un sujet tabou) أو التي يمنع النقاش حولها.
ويكتسي طرح موضوع إحداث ولاية جديدة بجزيرة جربة من وجهة نظري مشروعية كاملة للاعتبارات التالية :
أوّلا إنّ المبدأ الأساسي الذي قام عليه إحداث الولايات منذ سنة 1973 هو فكرة تقريب الخدمات العمومية من المواطنين من خلال إحداث التجهيزات ذات الصبغة الجهوية تكريسا لمبدأ الإنصاف الترابي. بحيث لا يضطر المواطن لقطع مسافات طويلة، ولا لإهدار الوقت للحصول على الخدمة “النادرة” والتي لا يجدها في محيطه القريب.
وإذا طبقنا هذه الفكرة على ولاية مدنين، وفي حالة جزيرة جربة التي تضم أكثر من 163000 ساكنا سنة 2014 (ويتجاوز عدد سكانها عدد سكان ولاية توزر مثلا ويتقارب مع عدد سكان ولاية تطاوين) وتبعد جغرافيا عن مركز ولاية مدنين مسافة طويلة (أكثر من 90 كلم عبر البرّ باستعمال طريق الجسر الروماني، وأكثر من 70 كلم عبر البحر باستعمال “البطاحات” لكن في هذه الحالة وجب احتساب ساعات الانتظار ذهابا وإيابا وهي على الأقل أربع ساعات، ما يعني استهلاك يوم كامل من أجل قضاء شأن إداري لا يتطلّب عادة سوى ساعة واحدة من الزّمن)، وعليه فإنّ مبدأ القرب الجغرافي يصبح منعدما.
ولتجاوز هذا الإشكال نسبيا، اتخذت الدولة منذ فترة زمنية طويلة جملة من القرارات، من بينها إحداث مجموعة من التجهيزات العمومية بالجزيرة، وهي تجهيزات لا تركّز في العادة إلّا في مراكز الولايات حسب شبكة وزارة التجهيز، من ذلك المستشفى الجهوي ومركز الفحص الفني للعربات ومنطقة الشرطة (الأمن الوطني) ومنطقة الحرس البحري وأقاليم شركات الكهرباء والغاز وشركة توزيع المياه ومؤسسة جامعية وهي المعهد العالي للدراسات التكنولوجية، إضافة إلى مصب مراقب للنفايات وغيرها من الخدمات الحياتية ذات البعد الجهوي.
لكن بقيت عديد الخدمات مفقودة (في المجال المالي والإداري والاقتصادي والاجتماعي…) وبالتالي، فان ترقية جزيرة جربة إلى رتبة ولاية من شانه أن يمكّن الجزيرة من بقية الخدمات المستوجبة لهذا الصنف على غرار المحكمة الابتدائية ومختلف الإدارات الجهوية للوزارات بما يقلص من حركة التنقل خارج الجزيرة مع ما يعنيه ذلك من إنصاف لمواطني هذه المنطقة الذين يتكبدون مصاريف إضافية ويقضون وقتا طويلا ومعاناة في التنقل نحو مركز الولاية وجهدا بدنيا كبيرا خاصة بالنسبة لكبار السن.
ثانيا، تبنّى دستور 2014 ومن بعده مجلة الجماعات المحلية النظام اللامركزي، وأقرّ منظومة جديدة تقوم على الحكم المحلي الذي تخلت بموجبه الدولة على مبدأ احتكار السلطة وأعطت للجماعات المحلية إمكانية التصرّف في مجالاتها حسب اختصاص كل منها. كما أقرّ الدستور مبادئ عديدة منها الحوكمة المفتوحة ومبدأ مشاركة المجتمع المدني في كل ما يتعلّق بالشأن العام. ومن هذا المنطلق، أعتقد أنّه من الوجاهة الخوض في مسالة إحداث ولاية من قبل متساكني الجزيرة، لكن عليهم التركيز على العوامل الموضوعية ونبذ الجهويات وفي إطار وحدة “الإقليم” الذي جاء بها الدستور.
ثالثا، تبنى دستور 2014 مبدأ أقلمة المجال الوطني بما يعنيه ذلك من إعداد تصوّر جديد للتقسيم الترابي الحالي الذي كانت تحكمه قبل 2011 اعتبارات عديدة من بينها ما هو أمنيّ (تشديد الرقابة) و ما هو اجتماعي (القضاء على العروشية والجهويات) وما هو اقتصادي (تقريب الخدمات). فمنظومة اللامركزية من ناحية ومبدأ التمييز الايجابي للمناطق الداخلية من ناحية أخرى، يقتضيان اليوم اتخاذ قرارات أّوّلها الزيادة في عدد الولايات إذا توفّرت الشروط الموضوعية لذلك، خاصة بالنسبة للجهات التي تضمّ مراكز حضرية بعيدة عن مراكز الولايات على غرار ولاية مدنين بهدف إنصاف متساكني هذه المناطق وتزويدها بالخدمات النادرة. وثانيها إحداث أقاليم محدودة العدد (3 أو 4 على أقصى تقدير) يمكنها أن تلعب دورا هاما في تنسيق مخططات التنمية وضمان التكامل بين مكوّناتها.
الخلاصة يمكن الإقرار بمشروعية مطالبة جزء هام من متساكني الجزيرة بضرورة إحداث ولاية جربة لما في ذلك من انعكاسات اجتماعية كبيرة على المواطنين، مع التأكيد على أنّ هذا الإحداث سيدعم دور الجزيرة في تنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية لكامل جهة الجنوب الشرقي باعتبارها قطبا سياحيا هاما، وسيمتّن العلاقة بين مكوّنات هذه الجهة باعتبار الروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية الصلبة ليس فقط مع بقية مجال ولاية مدنين بل سيمتد ليشمل أيضا ولايتي قابس وتطاوين. مع الملاحظ وأنّ جربة كانت مصنفة ” كقيادة ” خلال فترة الحكم الحسيني و”كمراقبة مدنية” خلال الفترة الاستعمارية وهي الرتب التي توازي اليوم رتبة الولاية.
لكن تبقى بعض التساؤلات قائمة حول مشروعية هذا الطلب والمتعلقة أساسا بالتخوّفات من العواقب التي يمكن أن تنجر عن الاستجابة لمثل هذا المقترح خاصة في ظلّ المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد والمتميزة بهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسة. ويمكن حصر هذه التخوفات في مسالتين أساسيتين : أولا التخوف من تغذية الشعور الجهوي أو ما يطلق عليه ب “الجهويات” مع ما يعنيه ذلك من خطر على وحدة الدولة وثانيا المخاطر التي يمكن أن تنجر على مثل هذا القرار بمطالبة مناطق أخرى بإحداث ولايات جديدة وهو ما من شانه إدخال البلاد في دوامة جديدة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
بالنسبة للنقطة الأولى لطالما تمّ اعتبار وضع جربة كجزيرة بحكم الانعزال الطبيعي (isolement/insularité) كعائق أمام ارتقائها إلى رتبة ولاية منفصلة جغرافيا عن بقية التراب الوطني. فالذين يرفضون فكرة الولاية بالنسبة لجربة، يرتكزون على هذه الخاصية الجغرافية كحجة، بدعوى الخوف من الاستقلالية وحفاظا على وحدة الدولة.
ومن وجهة نظري فإنّ هذا الهاجس لا مبرر موضوعي له باعتبار أنّنا لم نسمع يوما خطابا من أهالي جربة يدعو للانفصال، خاصة وأنّ الجزيرة مرتبطة عضويا ببقية التراب الوطني سواء في المجالات الاقتصادية (فهي تتزود منه بالطاقة الكهربائية وبالمياه وبكل الحاجيات الحياتية للمواطن وللحياة الاقتصادية) أو الاجتماعية (بحكم متانة علاقاتها ببقية مكونات ولاية مدنين وروابطها المتينة مع سكان الولاية).
كما أن الجزيرة يقطنها اليوم، إضافة للجرابة، مواطنون تونسيون ينحدرون من اغلب مناطق البلاد، يمكن أن يفوق عددهم عدد “الجرابة” أنفسهم. فجزيرة جربة كانت قبل ستينيات القرن الماضي مجالا طاردا للسكّان وهو ما يؤكّده الشتات الجربي في كامل البلاد وفي الخارج، ثم تحوّلت إلى قطب اقتصادي مشعّ في الجنوب الشرقي، تبعا لتركيز النشاط السياحي والخدمي وعديد التجهيزات العمومية منذ سبعينات القرن الماضي إلى اليوم، بما جعل منها مركز جذب للسكان من كامل أنحاء البلاد وخاصة من ولايات الجنوب الشرقي وهو ما أدى إلى تطور عدد سكانها ليفوق اليوم 163000 ساكن.
أما بالنسبة للمخاطر التي يمكن أن تنجر على مثل هذا القرار وإمكانية مطالبة مناطق أخرى بإحداث ولايات جديدة فحسب رأيي يمكن معالجة هذه المسالة بالتعامل بالإنصاف مع كل المناطق. إذ لا بدّ من وضع مقاييس موضوعية ودقيقة لإحداث الولايات ترتكز على عنصرين محدّدين وهما عدد السكان الذي يجب أن لا يقل حسب رأيي عن 150000 ساكن، سواء بالنسبة للمنطقة التي تطالب بإحداث الولاية أو بالنسبة لمكونات الولاية الأصلية التي يجب أن لا ينزل عدد سكانها عن 150000 ساكن بعد إحداث الولاية الجديدة. أما المقياس الثاني فهو البعد الجغرافي والذي يجب أن لا يقل عن 60 كلم بين مركز الولاية ومركز المنطقة المطالبة بالإحداث. وإذا طبقنا هذه المقاييس في وضعية جربة سنجد أنها تتوفر على المقياسين وسيبقى عدد سكان ولاية مدنين في حدود 316 ألف ساكن حسب إحصائيات 2014.
في الأخير، لا بد من التأكيد على أن التحول الكبير الذي عرفته البلاد سنة 2011 كان من بين أهم أسبابه اختلال التوازن بين الجهات والشعور بعدم الإنصاف لدى شريحة هامة من المواطنين من سكان المناطق الداخلية والأحياء الشعبية بسبب ضعف التجهيزات والخدمات العمومية. وبغضّ النظر عن مسألة مشروعية مطالبة جزيرة جربة بإحداث ولاية من عدمها لا بد من معالجة سريعة للإشكاليات التي تعاني منها الجزيرة اليوم بإقرار توفير كلّ الخدمات والتجهيزات الضرورية باعتبار أنّ هذا العامل هو السبب الرئيسي في تطور هذا الشعور بالحيْف لدي متساكني الجزيرة بما من شانه أن يخفّف من معاناتهم على أن تدرس مسألة إحداث الولاية برويّةٍ وبكل موضوعية وبعيدا عن التشنّج حتى لا تقرأ على أنّها ردّة فعل على بعض الأخطاء التي وقعت في السنوات الاخيرة.
* أستاذ محاضر بجامعة تونس.
شارك رأيك