أكدت أزمة فيروس الكورونا (كوفيد-19) أنه من الواضح أننا لا نستطيع منع ظهور أمراض معدية جديدة، حيث أن متسببات الأمراض تقفز باستمرار من الحيوانات إلى البشر، أو تمر بطفرات تجعلها أكثر عدوى وفتكًا من ذي قبل. ومع ذلك، لدينا القوة لكبح جماح الأوبئة ومنعها من قتل الملايين وتدمير الاقتصاد.
بقلم أمير عمار *
إن القول بأن البشر لم يستوعبوا الدرس جيداً مما حصل في الماضي جراء الأوبئة والطاعون قد يكون حكما متسرعا أو قاس قليلاً. إذ يجب أن نقارن وضعنا اليوم مع ما كان عليه في العصور السابقة. عندما انتشرت الأوبئة في عصر ما قبل الحداثة، لم يكن لدى البشر عادة فكرة عن سبب ظهورها، وما الذي يمكن فعله لإيقافها. إذ عادة ما يعتبرون بأن الطاعون هو تجسيد لآلهة غاضبة أو ظاهرة من ظواهرالسحر الأسود، وأفضل شيء يمكن أن يفكروا في القيام به يتمثل في إقامة صلاة جماعية للآلهة، والتي غالبًا ما تؤدي إلى إصابات جماعية. فعندما قتل “الموت الأسود” في القرن الرابع عشر أكثر من ربع الناس في آسيا وأوروبا، لم يكتشف البشر أبدًا سبب ذلك. عندما قتل ” الجدري” والأوبئة الأخرى في القرن السادس عشر ما يصل إلى 90 في المائة من السكان الأصليين في أمريكا، لم يكن لدى الأزتيك والمايا والإنكا أي فكرة عن سبب وفاتهم بالملايين.
فوز الأطباء هذه المرة بسباق التسلح ضد الفيروس
في المقابل، عندما بدأ وباء الفيروس التاجي، استغرق العلماء أسبوعين فقط لتحديد الفيروس الجديد، وتسلسل الجينوم الخاص به وتطوير اختبار موثوق لتحديد الأشخاص المصابين. وهو ما يعبر عن فوز الأطباء هذه المرة بسباق التسلح بمسببات الأمراض، لأن مسببات الأمراض تعتمد على الطفرات العمياء، بينما يعتمد الأطباء على المعلومات.
في يومنا هذا، يمكن للبلدان إرسال معلومات وخبراء ومعدات لمساعدة بعضها البعض على احتواء الطاعون، ويمكن للحكومات والبنوك وضع خطة مشتركة لمنع الانهيار الاقتصادي.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن الإنسانية لديها القوة لكبح جماح الأوبئة، لا تعني أن لديها دائمًا الحكمة لاستخدام هذه القوة بشكل جيد. كتب المؤرخ يوفال نوح هراري في كتابه “Homo Deus” في هذا الصدد: “بينما لا يمكننا التأكد من أن بعض حالات تفشي فيروس إيبولا الجديدة أو سلالة إنفلونزا غير معروفة لن تجتاح العالم وتقتل الملايين، فلن نعتبرها كارثة طبيعية لا مناص منها. بدلا من ذلك، سنرى أنه فشل بشري لا مبرر له ونطالب رؤساء مسؤولين… تمتلك البشرية المعرفة والأدوات اللازمة لمنع الطاعون، وإذا خرج الوباء عن نطاق السيطرة مع ذلك، فإن ذلك يرجع إلى عدم الكفاءة البشرية وليس الغضب الإلهي.”
يمكن أن يكون العالم اليوم يدفع ثمن سنوات من الإجراءات التقشفية التي اتخذتها معظم الدول بعد الأزمة الاقتصادية التي عرفها العالم في العقد الأول من الألفية الجديدة، والتي بدورها أدت إلى تخفيض ميزانية الرعاية الصحية حول العالم. فطبقاً لدراسة أجراها معهد أبحاث السياسات العامة في بريطانيا سنة 2019، فإن السياسات التقشفية التي اتبعتها معظم الدول في الفترة ما بين 2012 و2019 تسببت في وفاة ما يناهز 130 ألف شخصا كان يمكن أن تتفادى وفاتهم في حال توفير الاحتياجات الصحية الأساسية.
وفي هذا الصدد، يقول جريمي كوربن، رئيس حزب العمال الإنجليزي، في لقاء صحفي حول أزمة الكورونا، أن اثار 10 سنوات من التقشف ظهرت الآن.
الحاجة الملحة لخطة تضامن عالمي
الخيار الكبير المعروض علينا هو الاختيار بين العزلة القومية والتضامن العالمي. إن الوباء والأزمة الاقتصادية التي ستتبعه هي مشاكل عالمية لا يمكن حلها إلا بالتعاون العالمي.
إن العالم الآن يواجه عدوا مخيفا وشرسا، جعله يبدو كأحد أفلام الرعب أو الخيال العلمي، لكن العدو الذي تواجهه البشرية اليوم أخطر من الكائنات الفضائية أو الزومبي التي تواجههم هوليوود، العدو الآن لا يُرى بالعين المجردة، لا يفرق بين غني وفقير ولا يفرق بين دول العالم الأول والعالم الثالث.
هذا الفيروس حطم أسطورة النجاة الفردية، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، جعل وباء الكورونا البشرية في مركب واحد، لا تنفع فيه مقولة أنا ومن بعدي الطوفان، لأن هذا الطوفان سيغرق البشرية كلها. هذا الفيروس كان بمثابة صفعة قوية لكل من يظن أنه يمكن أن ينجو وحده، فسلامة وأمان الملياردير الذي يعيش في بيفرلي هيلز في الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بسلامة وصحة الفلاح والصيني الذي يعيش في قارة آسيا.
إن تفشي هذا الوباء أو غيره في أي دولة، يهدد البشرية كلها، وبالتالي أي محاولة للنجاة الفردية سواء كانت على مستوى أفراد أو دولة، ستؤول حتماً للفشل، وطالما أنا الفيروس لازال موجود في انسان واحد، مازال يشكل خطر على البشرية كلها. وكما هو الحال في الأفلام، لطالما كان العدو الخارجي هو الدفاع للاتحاد. اليوم نحن أمام فرصة حقيقية لتحقيق هاته الوحدة، بعدما حل هذا العدو على شكل فيروس.
يجب أن تكون الدول على استعداد لتبادل المعلومات وطلب المشورة والمساعدة والثقة فيما يتم تقديمها لها. سوف يتطلب الأمر أيضًا جهدًا عالميًا لإنتاج الاختبارات والمعدات الطبية في جهد منسق وليس كل واحد يركن ويقبع زاويته.
إن البشرية تحتاج، أكثر من أي وقت مضى إلى مشاركة المعلومات على المستوى العالمي: ما يجده الطبيب الإيطالي في الصباح يمكن أن ينقذ مريضًا إيرانيًا في المساء، وقد يكون لبريطانيا مصلحة في الاستماع إلى استراتيجية كوريا الجنوبية، التي واجهت نفس المشاكل التي واجهتها في وقت سابق، يشرح المؤرخ. ولكنه يتطلب روح التعاون والثقة الدوليين.
هذا التعاون يجب أن يشمل المجال الاقتصادي وحتى فيما يتعلق أيضاً بالحركة الجوية، فتعليق جميع الرحلات الدولية لأشهر سيكون مكلفًا للغاية وسيعيق مكافحة الفيروس. يجب إيجاد اتفاق يسمح بالسفر الضروري خاصةً للعلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال.
إعادة اكتشاف طريق الثقة
للأسف، المجتمع الدولي مشلول حاليًا، حيث يرثي يوفال نوح هراري في مقال له في “فاينانشيال تايمز”: “يبدو أنه لا يوجد بالغون في الغرفة”. كان العالم يتوقع قبل أسابيع خطة عمل شاملة، بدأها قادة هذا العالم. لكن مؤتمر الفيديو G7 كان غير ناجح. وتخلت الولايات المتحدة عن دور “الزعيم العالمي” الذي لعبته في الأزمات السابقة، مفضلة بشكل واضح العظمة الأمريكية على مستقبل البشرية. “حيث تخلت هذه الدولة حتى عن أقرب حلفائها، ولم تتشاور معهم أو حتى إبلاغهم قبل حظر الرحلات الجوية من الاتحاد الأوروبي. حتى لو تغيرت سياستهم واقترحوا خطة عالمية، كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يثيق في قائد لا يتحمل أي مسؤولية، لا يعترف أبداً بأي خطأ ويتهم الآخرين دائمًا. ولكن إذا لم تتجرأ أي دولة على اتخاذ مبادرة حل الأزمة، لن يكون فقط من الصعب إيقاف الوباء الحالي، ولكن عواقبه ستستمر في تسميم العلاقات الدولية لسنوات.
يبدو أن الإنسانية يجب أن تختار. هل سنتجه نحو الانقسام أم تسلك طريق التضامن العالمي؟ لن يؤدي الخيار الأول إلى إطالة أمد الأزمة الحالية فحسب، بل سيؤدي إلى كوارث مدمرة. إذا اخترنا التضامن، فسيكون ذلك انتصارًا ليس فقط ضد فيروس الكورونا ولكن أيضًا ضد جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي يمكن أن تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين.
* طالب مسجل في الدكتوراه بكلية الحقوق بصفاقس.
شارك رأيك