شهدت تونس منذ أحداث 2011، منعطفا سياسيا تغيّر معه وعي المجتمع، ولكن إفلات المسار من مُطلقيه جعل الخطاب المعادي للدستوريين العنوان الأبرز والسّمة المسيطرة على الوضع بالبلاد. ومهما كانت دوافع هذا الخطاب إلا أنه يظل صورة سيئة في مجتمع يسعى الى التصالح والإصلاح و ينم عن سوء فهم للتاريخ والدولة والقيم والمعتقدات السياسية للشعب التونسي.
بقلم العقيد (م) محسن بن عيسى *
تقف تونس منذ 2011 أمام مفصل تاريخي، افترقت فيه السياسة والأخلاق في الممارسة والواقع الميداني، وانحدرت القيم حتى لدى من يرفعون شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان. وفي هذا السياق لا تزال إشكالية الهوية السياسية قضية تبحث عن حلول جذرية لها في ظل حضور منطق الانتهازية واستشراء العنف دون الالتزام بأي ضوابط
هناك في تونس اليوم فوضى سياسية لا يعلم أحد متى وكيف وإلى أين ستنتهي؟
الدستوريون وسؤال الهوية والانتماء
الهوية قضية محورية بالنسبة للفرد والمجتمع، فهي السياج الذي يحفظ الشخصية والمعيار الذي يحمي القيم والمبادئ. وإذا توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كان الأمن والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت كانت الأزمة والاغتراب.
البلاد في الفترة الحالية تعبر إلى المجهول، ويمكن بسهولة أن نلاحظ مظاهر احتدام معركة الهوية والجدل الذي يدور حول دورها في إعادة تشكيل المشهد السياسي. من هنا كان من الواجب أن نعود الى الذاكرة الوطنية ونختزل للعبرة تجربة تاريخية مشتركة بدأت مع ظهور “الحركة الدستورية”، التي شكلت مرتكزا أساسيا للهوية الوطنية وللعمل السياسي على المستوى الفردي والجماعي بتونس.
وفي إطار التطرق لهذا الموضوع ذهب بعض الباحثين إلى القول بأنّ الحركة الدستورية هي أول انجاز فكري طرحه السياسيون التونسيون على الشعب وبخاصة الإصلاحيون منهم للدخول في معركة الاستقلال ثم بناء الدولة.
وأضاف الأستاذ البشير بن سلامة في أحد مؤلفاته أنه اعتمد من النظريات الكثيرة المطروحة حول هوية الشعب التونسي نظريةً واحدةً، هي النابعة من “المغامرة الكبرى التي ظهرت في الثلاثينات وتبناها الشعب التونسي بأكمله لأنها متلائمة معه”. فالمغامرة الفكرية التي رفدت وواكبت انبعاث الحزب الحر الدستوري استفادت من النظريات المطروحة كلها حول هوية الشعب التونسي وتجاوزتها.
وباختصار، فالحقيقة التاريخية أنّ الحركة الدستورية قامت على نضال رعيل كامل من جيل الثعالبي وجيل بورقيبة وبقية الزعماء. ولم تنطلق من أيديولوجيا وافدة وقاطعة لأي صلة بالنضال الوطني، ولهذا السبب طال عمرها رغم بعض التعثرات والالتباسات.
لقد شكلت هذه الحركة الأرضية الصلبة التي انتظمت عليها المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وبُنيت عليها الدولة الحديثة التي فتحت البلاد على الثقافة والعلم وقدّمت نماذج يُحتذى بها في هذه المجالات وغيرها. وقد سجّل لها التاريخ أسماء شخصيات كبيرة أضاءت دَيَاجير الجهل والخنوع والذل، شخصيات كانت كل اهتماماتهم تتعلق بالوطن، والسيادة، فضلا عن الدين والأرض، والعرض.
لم يكن من بين هؤلاء من يرى أن الهوية الوطنية انحراف عن العقيدة أو نوع من أنواع الاستلاب الحضاري، ولم تتفشى فيهم نوازع التسلط ومحاولات الدوس على القوانين، والقيم والأعراف والتقاليد.
ومعلوم أنّ رجال تلك المرحلة كانوا ابناء واقعهم وتشكلت أفكارهم وقناعاتهم استجابة لظروف هذا الواقع ومتغيّراته. وبرزت شخصياتهم واخلاقياتهم دون التأثر بالأطروحات “الميكيافيلية” والتي تتمركز في معظمها حول سيادة المصلحة – مثلما نلاحظ اليوم- ومحاولة تحقيقها بأية وسيلة بغض النظر عن مدى أخلاقيتها باعتبار أنّ الغاية تبرّر الوسيلة.
سؤال الهوية مهم لكل شعب، فشعب لا يعرف من هو ومن أين أتى لا يستطيع بناء مستقبل مشترك.
الخطاب المعادي للدستوريين
شهدت تونس منذ أحداث 2011، منعطفا سياسيا تغيّر معه وعي المجتمع، ولكن إفلات المسار من مُطلقيه جعل الخطاب المعادي للدستوريين العنوان الأبرز والسّمة المسيطرة على الوضع بالبلاد. ومهما كانت دوافع هذا الخطاب إلا أنه يظل صورة سيئة في مجتمع يسعى الى التصالح والإصلاح. وفي تقديري، فإن المشكلة لا تكمن في عنف الخطاب وانما تكمن في التراكمات السلبية الناجمة عن سوء فهم للتاريخ والدولة والقيم والمعتقدات السياسية.
وحتى لا نغرق في تفاصيل كثيرة، عاشت البلاد منذ الاستقلال والى 2011 على وتيرة الحزب الواحد وعرفت بعد ذلك الانفتاح على تشكيل الأحزاب ولكن لم يخلُ ذلك من معوقات. إنّ الهوية الدستورية تجربة تاريخية وطبيعي أن تسجل فيها بعض النقائص. كثيرة هي الأدبيات التي تضمّنت أخطاء الأحزاب ذات المرجعية الدستورية في نظامي بورقيبة وبن علي، ورغم ان هناك مبالغات فهذا لا يعني عدم وجود ثغرات وانحرافات في الممارسة السياسية والتدابير الإصلاحية.
وطبعا، لا يمكن الحكم على هذه المسيرة في اتجاه التفرقة دون التوحيد أو في اتجاه النظر إلى الماضي دون البناء المستقبلي. فالماضي نرثه ولا نصنعه نتأثر به ولا نؤثر في جوهره، فالماضي لا يمكن أن يتكرر كما كان، ولكن بإمكاننا أن ننتمي إليه بالعقل فنحاوره من خلال رؤية نقدية معاصرة لنستفيد من ايجابياته ونتجنّب ما هو سلبي فيه.
القضايا المطروحة اليوم أكبر من أن يتصدى لها حزب واحد أو تحالف أحزاب ظرفي. لقد أوصلتنا التداعيات السياسية منذ 2011 إلى حال أصبح فيه التفكك أسهل بكثير من التماسك، ولا بد من تغيير هذا الواقع إذا أردنا الخروج من الأزمة التي نعيشها.
الدستوريون اليوم وبمسميات مختلفة يشكّلون قوة سياسية لها خبرتها ودرايتها بسير دواليب الحكم والادارة والواجب الوطني يفرض على الجميع أن تنبثق عن هذه العائلة الموسّعة حركةَ لإعادة لمّ الشمل، واستعادة ما تشظّى من قياداتها وشخصياتها.
لا شك أنّ هناك فجوة بين بعض الأطراف ولكن الواقع الجديد بالبلاد يفرض التزامات جديدة على الدستوريين والليبراليين البورقيبيين والشخصيات الوطنية المستقلة للقيام بخطوة ضرورية في هذا الاتجاه.
هناك ضرورة لإيقاف محاولات تطويع القوانين والتقاليد المؤسساتية العريقة لصالح قناعات ومواقف جهات معينة، والانتقال بالحياة السياسية والتشريعية نحو بناء حياة حزبية صحية ومتطورة وراسخة تعتمد على القناعات القوية بأهمية البناء الفكري والتنظيمي النابع من واقعنا حتى لا تُنعت تونس بغير ذاتها ولا تُحشر في خانة التبعية والاصطفاف.
* ضابط متقاعد في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك