فرصة نجاح الانتقال الرقمي لا تزال سانحة أمام تونس لمواكبة هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية المتسارعة وغير المسبوقة، خاصة في المجالات التكنولوجية الجديدة والرائدة التي بدأت تؤثر على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدوات لها علاقة بجودة الخدمات وسرعة التعاملات مع ظهور التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، شبكات أنترنت الأشياء، الجيل الخامس للاتصالات، الحوسبة السحابية وغيرها من التطورات العملاقة التي يشهدها القطاع.
بقلم حافظ غربي اليحمدى *
منذ انطلاق الألفية الجديدة، راهنت كل البلدان المتقدمة على التكنولوجيات الحديثة ومجتمع المعلومات من أجل تطوير اقتصاداتها وتعصير أليات إنتاجها وتحسين الخدمات لمواطنيها بغاية الرفع من جودة الحياة وتحقيق نسبة عالية من النمو. اليوم أصبح الجميع في العالم على يقين من أن كل الدول سوف تكون مجبره مهما كان موقعها في العالم، على التأقلم مع العصر، ووضع الخطط والاستراتيجيات لتوظيف التكنولوجيا في كل القطاعات الحيوية. وفي تونس يعتبر مشروع الانتقال الرقمي من أكبر الأولويات الضرورية للنهوض بالاقتصاد الوطني وبناء مجتمع المعرفة والسيادة الرقمية.
قطاع التكنولوجيا ودوره في الاقتصاد الرقمي
حسب أرقام 2018 للمعهد الوطني للإحصاء بتونس، يمثل قطاع التكنولوجيا نسبة نمو ب 11%، و حسب وزارة التكنولوجيا يساهم بنسبة 7.5% من الناتج المحلى الخام PIB ويشغل أكثر من 90 ألف تونسي، مع 9000 موطن شغل جديد في 2019، و يتجاوز عدد المؤسسات الناشطة 1800. وهو ينتج سنويا 15000 خريجا جامعيا جديدا يدخلون إلى سوق الشغل، في تونس والخارج.
هذا ويستحوذ قطاع البريد والاتصالات (مؤسسة البريد وشركة تونس للاتصال) لوحدهما على نسبة 5% من نسبة ال 7.5% التي يساهم بها القطاع في الناتج المحلى الخام، لتبقى لمجال الخدمات الإعلامية والصناعات الإلكترونية نسبة ضعيفة لا تتجاوز ال 2.5%، وهي نسبة تؤكد عدم التوازن في الانتاجية وهوة كبيرة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
الإشكال هنا هو في هيمنة واحتكار الدولة لقطاع التكنولوجيا والمعلومات وغياب أو تغييب الدور الفاعل وتفعيل الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص، عبر المؤسسات الناشئة المتوسطة والكبيرة، التي هي المحرك لبناء الاقتصاد الرقمي المستدام والمتفاعل مع واقعه الاجتماعي والثقافي، وبرغم وجود الهيئة العامة للشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص التابعة لرئاسة الحكومة، والقانون عدد 49 لسنة 2015 المؤرخ في 27 نوفمبر 2015 المتعلق بعقود الشّراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، يبقى دور القطاع الخاص ضعيفا جدا في إنجاز وتنفيذ المشاريع الكبرى الخاصة بالبنية التحتية الرقمية وتطوير مشاريع رقمنه الإدارة التونسية وغيرها.
نقطة ثانية تعتبر إيجابية تخص تغيير اسم وزارة التكنولوجيا في ورقة مشروع حكومة إلياس الفخاخ، وهو تعديل هام ودقيق جدا لم ينتبه إليه العديد من الناس، تعديل إسم وزارة التكنولوجيا والتحول الرقمي عوضا عن الاقتصاد الرقمي يحمل رسالة سياسة الانفتاح والشراكة مع القطاع الخاص لتطوير الاقتصاد الرقمي وإنجاز مشروع التحول الرقمي التونسي.
بناء الثقة وتعزيز السلامة المعلوماتية
إن دعم الإبداع التكنولوجي وخلق بيئة حاضنة ومحفزة للمؤسسات الناشئة أصبح ضرورة وطنية لتحسين الخدمات الإدارية، تعصير المعاملات المالية وتطوير التجارة الإلكترونية. وتعتبر الثقة الرقمية من أولى البرامج التي يجب تنفيذها لتشجيع المستثمرين والمتعاملين الاقتصاديين في التعاملات الرقمية المالية وغيرها لبناء الثقة وتعزيز السلامة المعلوماتية.
كما يجب أن يتضمن برنامج المشروع الوطني الإصلاحي للتحول الرقمي على إعادة هيكلة شاملة للقطاع، وإرساء ثقافة تشاركية تضم كل أصحاب المصلحة، وتأسيس لهيئات وطنية قوية ومستقلة ضامنة للسلامة تعهد لها مهام وأدوار حسب الاختصاصات الحيوية التي تتعلق بالقطاع.
في هذا الإطار نقترح:
-إنشاء هيئة مندمجة تعنى بالأمن السيبرانى والسيادة الرقمية تضم الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية والوكالة الفنية للاتصالات والوكالة الوطنية للأنترنت،
-إنشاء هيئة خاصة بإدارة الترددات والمصادقة الإلكترونية والبث التلفزي،
-إنشاء قطب يعنى بالإبداع التكنولوجي وتطوير المؤسسات الناشئة،
-إنشاء هيئة خاصة بحوكمة الأنترنت، إدارة الشبكة، دعم خلق المحتوى الرقمي والخدماتي،
-بناء مجلس يعنى بالبحث العلمي وتطوير الدراسات الخاصة بالقطاع،
بعث هيئة عليا وطنية تشرف على مشروع التحول الرقمي ووضع السياسات لتنظيمه وتطويره.
التحول الرقمي كمشروع استراتيجي للتغيير والإصلاح الشامل
أصبحت المعرفة والمعلومة والبيانات تمثل رمز القوة والهيبة للدول، ومن يمتلك المعلومة يمتلك أليات النجاح والتقدم الحقيقي، في هذا السياق، تضمنت الوثيقة التعاقدية للبرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الحكومة السيد إلياس الفخفاخ مشروع التحول الرقمي كرهان حقيقي لردم الفجوة الرقمية، بناء مجتمع المعرفة، تطوير الاقتصاد الوطني، تحسين جودة الحياة والخدمات، واستغلال ثروة البلاد البشرية من الكفاءات التونسية الشابة في عملية الإنجاز والتنفيذ.
الثقافة الرقمية والانتقال الرقمي في مختلف القطاعات
إن إنجاح مشروع التغيير للتحول الرقمي مرتبط بإنشاء “ثقافة رقمية” نابضة بالحياة وشاملة من شأنها أن تحفز الأفكار والإبداع والتعاون والشراكات، في أشكال وترتيبات مختلفة بين القطاع العام وقطاع الأعمال والمجتمع المدني والجامعة التونسية لدفع الفوائد الاجتماعية والاقتصادية الرقمية على الصعيد الوطني والإقليمي والعالمي.
اعادة الهيكلة وتحسين حوكمة المؤسسات العمومية
يشهد قطاع التكنولوجيا تعدد كبير للمؤسسات داخله في غياب رؤية واضحة للعمل المشترك أو أهداف وبرامج معلومة لكل مؤسسة، مما يحتم اليوم دمج بعض المؤسسات التي تتكامل في مهامها. ومن شأن هذا التمشي تحسين نجاعة المرفق العمومي وحوكمة المؤسسات، كما من شأنه أن يساهم في تقليص تكلفة تسييرها وترشيد التصرف في مواردها التكنلوجية من مراكز فنية وغيرها.
يعتبر التحول الرقمي مشروعا استراتيجيا للتغيير من بين الأولويات القصوى والمؤكدة ضمن المشاريع الوطنية الكبرى، إذ يجابه هذا المشروع تحديات كبرى مثل :
-تحديث البنية التحتية لشبكات الاتصال والأنترنت،
-تغيير العقلية وإرساء ثقافة الرقمية في الإدارة والمجتمع،
-تطوير التعليم والصحة وتحسين الخدمات بتوظيف التكنولوجيا الحديثة،
-تحديات مشروع المعرف الوحيد،
-المحافظة على الخصوصية وحماية المعطيات الشخصية
-بناء الثقة أمام تحديات التجارة الإلكترونية
-تطوير الخدمات الإلكترونية في المجال المالي والبنكي،
-التشغيل البيني للبيانات بين مراكز الإعلامية ودعم تطوير المحتوى الرقمي.
إنشاء الهيئة العليا للتحول الرقمي
يجب إنشاء هيئة مستدامة عالية المستوى تكون تابعة لرئاسة الحكومة باسم الهيئة العليا للتحول الرقمى تتولى الإشراف على المشروع برسم السياسات والاستراتيجيات المتعلقة بالمستوى الرقمي على مستوى الوزارات ووضع الخطط والبرامج اللازمة لتنفيذها، وضمان تنسيق المبادرات المتصلة بذلك، بالإضافة إلى الإشراف على برنامج التحول الرقمي واعتماد خطط عمله وتشغيله.
تكون الخطة الوطنية للتحول الرقمي ذات أبعاد وأولويات:
-الإدارة الإلكترونية،
-التجارة الإلكترونية،
-المدرسة الرقمية والأبعاد الستة للتعلم في القرن الواحد والعشرين،
-السيادة الرقمية والسلامة المعلوماتية،
-مشروع المعرف الوحيد،
-مشروع السيادة السحابية،
-مشروع دعم المؤسسات الناشئة،
-مشروع تفعيل البحث العلمي وردم الفجوة بين الجامعة والقطاع الخاص.
الخلاصة اليوم مع واقع الإدارة التونسية وضرورة تطويرها هو أن فرصة نجاح الانتقال الرقمي لا تزال سانحة أمام تونس لمواكبة هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية المتسارعة وغير المسبوقة، خاصة في المجالات التكنولوجية الجديدة والرائدة التي بدأت تؤثر على عديد المجالات ومنها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدوات لها علاقة بجودة الخدمات وسرعة التعاملات مع ظهور التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، شبكات أنترنت الأشياء، الجيل الخامس للاتصالات، الحوسبة السحابية وغيرها من التطورات العملاقة التي يشهدها القطاع.
* مهندس أول و خبير دولي في سياسات حوكمة الإنترنت وتكنولوجيات الإتصال والمعلومات.
شارك رأيك