تونس تعاني اليوم من هزال ووضاعة طبقتها السياسية. ولا شك أن تواصل المهازل والفضائح والدونكيشوتيات والفلكلوريات خاصة في مجلس النواب سيزيد في إحباط المواطنين ويعمق شعورهم بخيبة الأمل ويوسع الفجوة بينهم وبين السياسيين ويقلص، تبعا لذلك، من مشاركتهم في الشأن العام بالبلاد وهو ما من شأنه أن يضرب المسار الديمقراطي برمته في الصميم.
بقلم مصطفي عطية *
خيمت العتمة بدلالاتها اللاأخلاقية على الساحة بكافة مكوناتها السياسية والبرلمانية والحزبية والإعلامية فزادتها تعفنا، بعد أن انحدر الحوار بين الفاعلين في أرجائها إلى أسفل السافلين، حتى غدت المعارك تدار في المنابر بلغة سوقية صادمة ومشحونة بالمزايدات الوضيعة والشعبويات المبتذلة وكل أنواع “العهر السياسي” وجميع أشكال “الإنحدار الإعلامي”.
إفلاس فكري وقلة حياء
دأب العديد من المشعوذين السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين على كيل التهم لبعضهم البعض ونشر غسيلهم الوسخ على سطوح وسائل الإعلام التي هزتها مستنقعات الرداءة، وقد أبدوا من الإنحدار اللغوي والوضاعة السلوكية والإفلاس المعرفي ما أفقدهم ما تبقى لديهم من مصداقية لدى الرأي العام .
كنا نعتقد، وهما، أن الأمر لا يتجاوز حفنة من قليلي الأدب وعديمي الحياء ممن جادت بهم الفوضى، ولكننا إكتشفنا، مع مرور االسنوات العشر العجاف، انهم يمثلون الأغلبية في هذه الطبقة الموبوءة بكل الآفات الأخلاقية الخطيرة، وكنا نعتقد، أيضا، ان بقاءهم في الساحة لن يطول ولكنهم تسمروا في كل أرجائها بل إحتلوا أهم المواقع فيها.
يحدث كل هذا في ظل عشرية مثخنة بتداعيات الفوضى والإنفلات والتذبذب والإرتباك وانهيار هيبة الدولة ومؤسساتها دون أن تظهر في الأفق مؤشرات جدية لقرب إنتهاء هذا الكرنفال التراجيدي-الكوميدي، المشحون، والذي حول العمل السياسي والبرلماني والحزبي والإعلامي إلى ضرب من ضروب العهر بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات.
مشعوذون فوق القانون
كان التونسيون يتندرون، في ما مضى من الزمان، بما يحدث أحيانا من مهازل في بعض البلدان القريبة منا حتى إكتشفوا فجأة ان ساحتنا السياسية الموبوءة بالإفلاس الفكري والأخلاقي والمعرفي تزخر بالغرائب والغرائبيين وبالفضائح والفضائحيين مما يؤكد، بوضوح، وجود خلل وظيفي خطير في هذه المنظومة الغارقة في الأوحال.
لن أتحدث أكثر من اللزوم عن المشاحنات والملاسنات والسب والشتم والقذف والضرب تحت الحزام والتشابك بالأيدي تحت قبة مجلس نواب الشعب، ولن أتعرض إلى المشعوذين الذين دأبوا في كل مناسبة على كشف ما يختزنونه من لؤم وقذارة ولكني سأتوفف هذه المرة عند هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم فوق القانون فيهددون رموز الدولة ومنافسيهم السياسيين ومنتقديهم الإعلاميين بلغة سوقية و بتواطؤ مفضوح، أحيانا، من بعض منشطي الإذاعات والفضائيات.
لو حدث هذا الأمر في أي دولة أخرى تحترم نفسها ولها هيبة لفتحت السلط تحقيقات في صحة ما قيل أو عدمه، ولحددت المسؤوليات بدقة، فهذا يتهم وذاك ينفي في سوق مفتوحة على كل المزايدات دون تدخل رادع !
إنها علامة من علامات الإنحدار! لا بد من التحرك بجدية وفاعلية لفضح كل هؤلاء الشعبويين الذين إستفادوا من الفوضى والإنفلات وجعلوا منهما أصلا تجاريا لتأكيد حضورهم وتأجيج الصراعات وعرقلة كل محاولات الإصلاح لأنهم لا يستطيعون العيش إلا في بؤر التوتر ومستنقعات الفتن وقواميسها المشحونة بالسوقية.
لقد تفطن الشعب لحقيقة كل هؤلاء الذين أغرقوه على امتداد ما يقرب عن تسع سنوات في بحار من الشعارات الرنانة والوعود المغرية وفضح أكاذيبهم وترهاتهم وزيفهم.
إنزلاق خطير إلى منحدرات الإبتذال
إن المسألة على غاية من الخطورة، وهي جوهر المعضلة التي يعاني منها الشعب التونسي والمتمثلة في إفلاس الطبقة السياسية وقلة حياء أغلب السابحين في مستنقعاتها. لا يجوز الحديث عن حرية وديمقراطية وحقوق وأحزاب وٱنتخابات في ظل هذا الإنزلاق المتواصل في منحدرات الإبتذال وقد حان الوقت لمواجهة هذا المد السوقي الذي لوث العمل السياسي وأساء للسياسيين ودفع بالكفاءات إلى الهروب من المشهد !!!
أجل، حان الوقت لإنهاء هذه المهازل التي تسيء للبلاد وديمقراطيتها الناشئة ولا بد من التعجيل بتطبيق القوانين المعمول بها والإلتزام بشروط الحرية وقيم ومبادئ الديمقراطية، لأن تواصل مثل هذه المهازل والفضائح والدونكوشوتيات والفلكلوريات سيزيد في إحباط المواطنين ويعمق شعورهم بخيبة الأمل ويوسع الفجوة بينهم وبين السياسيين ويقلص، تبعا لذلك، من مشاركتهم في الشأن العام بالبلاد وهو ما من شأنه أن يضرب المسار الديمقراطي برمته في الصميم ويبدد الحلم بٱستعادة البلاد لعافيتها وخروجها من النفق المظلم الذي تردت فيه.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك