إن إحداث صندوق الزكاة ببلدية الكرم أو أي مؤسسة عمومية أخرى ليس قانونيا إذ لا يحقّ للبلدية إنشاء هذا الصندوق أو أي صندوق آخر غير ذلك المنصوص عليه بالفصل 138 من مجلّة الجماعات المحلية. وعلى البلديات والسلطة المركزية التّقيد بمقتضيات النظام المالي المنصوص عليه بهذه المجلة التي تُحيل لمجلة المحاسبة العمومية التي تُجرّم فتح الحسابات البنكية وتجرّم آمري الصرف والأعوان الذين ليس لهم صفة المحاسب ويتصرّفون في أموال عمومية أو أن يكون لهم حساب جار.
بقلم الأستاذ العميد ناجي البكوش *
بعد اطلاعي على منشور السيد وزير الشؤون المحلّية الصادر بتاريخ 18 ماي 2020 حول فتح الحسابات الخاصة بميزانية البلديات بعد ما أثاره إعلام السيد رئيس بلدية الكرم مُجدّدا بعث صندوق زكاة من جدل، وبالنّظر للقواعد التي تحكم المالية العمومية ومبادئ القانون التونسي رأيت من الوجيه استجابة لمطالب عديدة وردت عليّ تقديم التوضيحات التالية للرأي العام …
أولا : ينصّ الفصل السادس من الدستور على أن “الدولة راعية للدين” وهو ما يعني أن الشأن الديني من مُتعلقات الدّولة دون سواها من الجماعات المحلية أو الجمعيات علما وأنه خلال مناقشة مشروع مجلة الجماعات المحلية من قبل اللّجنة البرلمانية –وكنت شاهدا على ذلك- أثيرت بإلحاح مسألة إدراج “العناية بالمساجد” ضمن اختصاص البلديات لكن اعتمادا على أحكام الفصل السادس من الدستور تم استبعاد المُقترح بقناعة ظاهرة لكل السّادة النواب الحاضرين وكان يومها عددهم كبيرا.
واعتبارا لأن الزّكاة شأن ديني بحت، لا يحقّ للجماعات المحلّية التدخّل فيها من حيث المبدأ لأن الدولة تنفرد برعاية الدين ولو أن وظيفة “رعاية الدين” لا تُخوّل الدولة نفسها التشريع في ممارسات العقيدة.
ثانيا : ينصّ الفصل 138 من مجلّة الجماعات المحلّية على استثناء وحيد ومشروط لمبدأ “وحدة الحساب المالي” للجماعة المحلية ويتمثّل في فتح حساب يمسكه المُحاسب العمومي للجماعة المحلية لتجميع “الهبات” التي تُخصّص وجوبا “لتمويل أو للمساهمة في تمويل مشاريع ذات مصلحة عامة”. وهو عبارة عن “حساب مكرر” باسم البلدية. ويتطلب فتح الحساب تقديم طلب في الغرض لوزارة المالية بناء عن مداولة مجلس الجماعة باعتبار الوزارة ساهرة على كافة المال العام. ويتمّ إعلام الوالي وأمين المال الجهوي المختصين ترابيا بالمداولة. ويتولى المحاسب العمومي بعد التشاور مع وزارة المالية فتح الحساب بعد الحصول على معرّف لذلك الحساب من الإدارة المركزبة.
ويؤكد الفصل 138 أن الأمر يتعلّق “بهبات” مخصّصة وجوبا لإنجاز مشاريع عامة كرياض الأطفال أو تجهيزات رياضة أو مكتبات أو مباني ثقافية أو دور للمُسنين. وبالتالي لا علاقة لهذا الحساب بالزكاة التي هي “واجب ديني” يحكم علاقة المسلم بخالقه لا يحقّ للمُشرع الوضعي (على مستوى الدولة أو الجماعة المحلّية) التدخّل فيه بأي وجه خاصة في ظلّ دولة مدنية يتعايش تحت تشريعها كل الأفراد بقطع النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم الدينية.
ثالثا : لا علاقة لهذا الحساب بحسابات المشاركة التي ينصّ عليها القانون الأساسي للميزانية والمُخول فتحها لمصالح الدولة والمؤسسات العمومية دون الجماعات المحلّية التي لم يعد لها الحقّ في اللجوء لهذه الحسابات التي يبدو أن منشور السيد وزير الشؤون المحلية اقتبس منها القواعد التي ضبطها.
وبالمناسبة يجب أن يعلم السّادة الوزراء أنّه لا يحقّ لهم التشريع بمناشير لأن المناشير جُعلت لتفسير النصّوص من قبل رئيس للإدارة قصد ضمان تأويلها بنفس الطريقة من قبل الأعوان الراجعين له. وأما تجاه الجماعات المحلّية فلا يملك أعضاء الحكومة صلاحية توجيه التعليمات أو المناشير الآمرة. فهذه من أبجديات اللّامركزية التي أرساها الدستور والتي -والحق يقال- لا يقبل بها عدد غير قليل من المسؤولين عندنا بالرّغم من كونها تمثّل شرط استدامة الديمقراطية بأسرها.
رابعا : كل ما يتعلّق بالجوانب المالية تحكمها أحكام قانونية تشريعية دقيقة ولا مجال للتوسّع في تأويلها أو الإضافة لها بقرارات إدارية أو باجتهادات. فكلّ أموال الجماعة المحلية تودع في حساب (وعند الاقتضاء في حساب مكرر) يتصرّف فيه المحاسب العمومي أي عون الدولة التي تكلّفه بمالية البلدية. فالاستخلاص عملية موكولة للمحاسب العمومي واستثنائيا لوكيل المقابيض تحت مسؤولية المحاسب العمومي دون غيره. وكلّ تجميع للأموال من قبل الجماعة المحلّية بغير الصّيغ المنصوص عليها بمجلّة الجماعات تعتبر من الجرائم التي يعاقب القانون من يُمارسها.
كما أن فتح حساب من قبل رئيس بلدية لدى بنك أو لدى البريد التونسي يعتبر من قبيل الجرائم. فالجهة الوحيدة المختصة بفتح حساب مكرّر لإيداع الهبات المخصّصة لإنجاز مشاريع عمومية هو المحاسب العمومي التابع إداريا للسيد وزير المالية ولكنه مكلّف بمالية البلدية.
وتبعا لما سبق لا يحقّ للبلدية إنشاء صندوق للزكاة أو أي صندوق آخر غير ذلك المنصوص عليه بالفصل 138 من مجلّة الجماعات. وعلى البلديات والسلطة المركزية التّقيد بمقتضيات النظام المالي المنصوص عليه بهذه المجلة التي تُحيل لمجلة المحاسبة العمومية فيما لا يتعارض مع مجلّة الجماعات ومع مبدأ التدبير الحرّ. وليعلم الجميع أن مجلّة المحاسبة العمومية تُجرّم فتح الحسابات البنكية وتجرّم آمري الصرف والأعوان الذين ليس لهم صفة المحاسب ويتصرّفون في أموال عمومية أو أن يكون لهم حساب جار.
وإذا كان من مسؤولية السّادة الولاة والسيد وزير المالية بالخصوص الحرص الشديد على تطبيق القانون الذي يحكم المالية العمومية بكلّ مكوناتها فإنّه من وظائف مُكونات المجتمع المدني التوجّه للقضاء لإلزام الجميع باحترام القانون والمحافظة على وحدة الدولة وعلى مدنيتها. ولاشك أن القضاء الإداري سيستجيب ولا شك أن القضاء المالي سيتولّى ما يخوّله له القانون. وفي مجال العام كل من يتخلّى عن ممارسة مسؤولياته الرقابية يمكن أن يجد نفسه قيد المساءلة.
* عميد سابق لكلية الحقوق بصفاقس.
شارك رأيك