في عيد النصر، المعتم عليه، ذكرى عودة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى أرض الوطن مظفرا ومبشرا برحيل الإستعمار وأذنابه، في غرة جوان من سنة خمس وخمسين وتسع مائة وألف، تستعرض الذاكرة المآثر الخالدة للمجاهد الأكبر الذي نذر نفسه لهذا الوطن كفاحا وجهادا وتأسيسا وتشييدا.
بقلم مصطفى عطية *
لقد ترك الزعيم بورقيبة إرثا خالدا في الوطنية والإصلاح ونظافة اليد والحكم الرشيد وقيادة الجهاد الأكبر ضد التخلف والجهل والمرض والآفات الإجتماعية والفساد، وقد كان من المفروض أن ينير هذا الإرث الإصلاحي الهائل الطريق أمام الحكومات المتعاقبة منذ 14 جانفي 2011 لكنها تجاهلته بل سعت إلى التشكيك فيه وتشويهه ونسفه.
كان سياسيو هذا الزمن الرديء قد دأبوا، خلال السنوات الأخيرة، على توظيف بعض المصطلحات “البورقيبية” المحملة بالقيم النبيلة توظيفا يجردها، أحيانا، من مقاصدها، ومن هذه المصطلحات التي تتعرض يوميا للإنتهاكات المفضوحة، مصطلح “الوحدة الوطنية”، الذي جعله الزعيم الحبيب بورقيبة، طيلة رحلتي النضال وبناء الدولة الحديثة، الركيزة الأساسية لخطابه التنويري والتحديثي ومشروعه الإصلاحي، قبل أن يحل “تتار” السياسة والشعبويات الوضيعة ، ويغرقوه في أوحال الإبتذال.
خطب المفارقات العجيبة
من المفارقات العجيبة أن كل الذين ركبوا سروج الجهويات وعملوا جاهدين، وبكل السبل الرخيصة، على إثارة الفتن بين التونسيين، وضمنوا خطبهم الشعبوية المبتذلة دعوات إنفصالية، وألبوا الجهات على بعضها البعض، أصبحوا يرفعون شعار “الوحدة الوطنية”!!! هكذا بكل صفاقة وقلة حياء ! إنه النفاق في أبشع مظاهره وأكثرها إنتهاكا لذكاء الناس ! صحيح أن إزدواجية خطابهم قد كشفت عن معدنهم وعرت حقيقتهم وأفقدتهم آخر أوراقهم، ولكنهم واصلوا مع ذلك هروبهم الهستيري المحموم إلى الأمام رافعين شعار “الوحدة الوطنية” دون أن يصدقهم أحد.
إن كان هؤلاء قد فقدوا كل مصداقية أمام الشعب وأصبح ظهورهم فلكلوريا يثير الإستهزاء والشفقة، فإن البعض الآخر ممن دأبوا على التلويح بنفس شعار “الوحدة الوطنية” في حلهم وترحالهم، وهم أبعد ما يكون عن الإيمان بها، مازالوا مصرين على إقتراف الآثام تحت مسميات عديدة ومختلفة لقضاء حاجاتهم السياسية العابرة والظرفية! فالذين طمعوا في الحصول على نصيب من “الغنيمة” ولكنهم لم يحققوا مبتغاهم، فضحوا أنفسهم بأن ربطوا الوحدة الوطنية بمصالحهم الشخصية ورغبتهم الجامحة في الحصول على المنافع والفوائد في حين أن “الوحدة الوطنية” هي شكل راق من أشكال التضحية وخدمة المصلحة العليا للبلاد.
أما الذين إعتقدوا أن إصطفافهم وراء رافعي شعار “الوحدة الوطنية” سيمكنهم من العودة إلى الواجهة رغم سقوطهم المدوي في الإنتخابات الماضية فقد تناسوا أن الشعب الذي أسقطهم، بتلك الطريقة المهينة، لن يسمح لهم بالعودة من أي شباك كان وعلى أي سرج من السروج حتى وإن كان سرج “الوحدة الوطنية”.
تقسيم التونسيين إلى ملل ونحل
لا بجوز لمن قسم التونسيين إلى “مؤمنين وكفار، وثوريين وأزلام، وشماليين وجنوبيين، وبلدية وآفاقيين، وسواحلية وأعماق”، أن يستهزأ بالناس ويتحدث عن الوحدة الوطنية التي هو أول منتهكيها، فللنفاق السياسي حدود، وللكذب والبهتان زمن قصير، وللشعبويات خطوط دنيا وإن كانت الحضيض.
لا شك أن البلاد بحاجة أكيدة وماسة لوحدة وطنية في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة والحاسمة من مسيرتها، ولا شك أيضا أن إرثنا في هذا المجال، والذي تركه الزعيم الحبيب بورقيبة، هائل وتتحتم العودة إليه وتوظيفه توظيفا سليما ومحكما دون خلفيات وحسابات، ولكن الرقص المحموم على حبل “الوحدة الوطنية”، والذي نشاهده يوميا على مسرح السياسة في بلادنا هو ضرب من ضروب الإزدراء بهذه القيمة النبيلة وتشليكها وتدمير كل الموروث الذي إتصل بها على مدى عقود من الزمن.
إن الوحدة الوطنية لا تتجسم عبر الشعارات والنظريات والأشكال، ولا يمكن تحقيقها من خلال مسميات ونعوت وشعارات ! ما معنى “وحدة وطنية” في ظل تواصل سياسة الإقصاء والتهميش على أساس الإنتماء لهذا العهد أو ذاك؟ وما الفائدة من التلويح بشعارات الوحدة الوطنية والفوارق بين طبقات المجتمع تتسع على وتيرة سريعة، فٱزداد الأغنياء ثراء والفقراء تعاسة وظهرت طبقة جديدة من “أثرياء الثورة” كما “أثرياء الحرب” تماما ؟!!!
إن الوحدة الوطنية تجسمها برامج العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص وصيانة حقوق الناس دون تمييز أو تفاضل، ونبذ التفرقة بكل أشكالها، وفتح الآفاق أمام الجميع وتشريك الكفاءات دون إقصاء.
تلك هي طريق تجسيم الوحدة الوطنية الصماء التي عبدها الزعيم الحبيب بورقيبة وسار فيها محققا إنجازات تاريخية كبيرة، فلولا الوحدة الوطنية لما تحررت تونس من الإستعمار، ولما تجاوزت تداعيات الفتنة اليوسفية والآثار الكارثية لسياسة التعاضد، والصراع الدامي بين حكومة الهادي نويرة والإتحاد العام التونسي للشغل، وٱنتفاضة الخبز. هذا هو نموذج “الوحدة الوطنية” التي نحتاجها اليوم.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك