تونس اليوم تمر بوضع اقتصادي صعب كانت قد مرت به منذ قرن و نصف وأدى إلى إفلاسها وفقدانها لسيادتها وتبعيتها للقوى الأجنبية فأي دروس يمكن أن يستخلضها رئيس الحكومة إلياس الفحفاخ من شهادات المؤرخ أحمد ابن أبي الضياف عن أخطاء حكام عصره ؟
بقلم مصطفى عطية *
إشتد الجدال وٱضطرم حول الوضعية المالية المتدهورة بالبلاد والتي زادتها أزمة جائحة كورونا تدهورا كارثيا، وٱرتفع تبعا لذلك منسوب الخوف والإحباط في قلوب عموم التونسيين، الذين يعيشون منذ ما يقرب عن عشر سنوات على إيقاع خيبات الأمل المتراكمة في ظل إرتفاع الأسعار والتضخم وٱنهيار الدينار وتراجع المقدرة الشرائية وٱنخرام التوازنات وتضخم القروض وتعطل الإنتاج وضعف أداء المرافق والخدمات العامة إضافة إلى ما تم الكشف عنه أخيرا من ملفات فساد كبير.
وفي خضم هذا الغليان تفيدنا الوقائع القديمة بحقائق تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا بالتفاصيل ذاتها !
الوضع منذ مائة وخمسين سنة يلقي بظلاله على واقعنا اليوم
كتب أحمد إبن أبي الضياف في كتابه المرجع “إتحاف أهل الزمان” وهو يصف وضع البلاد والعباد سنة 1867 : “ظهرت للباي كيفية في ٱستخلاص الجباية بأسلوب أفنى الشحم واللحم وأنكى في العظم … ولما فشا خبر ذلك، طارت عقول الناس مثلما طارت في فتنة الإثنين والسبعين (إمتناع الناس عن دفع المجبى وحدوث إضطرابات خطيرة في العديد من مناطق البلاد) مع إمساك الغيث، والجدب، والعسر الذي لا عهد بمثله”.
وعرج إبن أبي الضياف في السياق ذاته على إرتفاع إمتيازات الباي وباطنته من الوزراء والأعيان في تلك الظروف القاسية جدا وكتب ناصحا : “ولا داعي له في هذه الإيالة الفقيرة إلا التشبه بالعظماء والزيادة في المصروف”!
لقد بدا وكأن هذه الرسائل المختصرة أوصى بها إبن أبي الضياف إلى الذين سيحكمون تونس لعلهم يستخلصون العبرة مما حدث في البلاد في عصره وأدى إلى تكوين “كوميسيون” مالي لوضع الوطن بأكمله تحت الرقابة الأجنبية ثم إستعمارها.
لذلك فإن إلياس الفخفاخ مطالب بالتمعن في هذه الوصايا والتفطن إلى المخاطر التي ستتداعى عن تطبيق برنامجه الذي ينص بالخصوص، وكما يعلم الجميع، على الترفيع المشط، وغير المدروس بدقة وواقعية، في الأداءات وكل أنواع الضرائب، بما فيها الأداء على القيمة المضافة، والزيادة العشوائية في معاليم الإستهلاك والضريبة الموظفة على الأجور والدخل، بالإضافة إلى عنصر جديد في إثقال الأعباء على المواطن البسيط، وهو ما يسمى بالمساهمة الإجتماعية (هكذا) التي توظف على الدخل وتكثيف الإقتطاعات من مرتبات الموظفين وجرايات المتقاعدين.
مستشارو المكاتب المريحة في واد والشعب في واد آخر !
هذه الحزمة من الأداءات والضرائب طالب بها صندوق النقد الدولي (مثال الكوميسيون منذ مائة وخمسين سنة) كشرط أساسي للإنتفاع بقروضه التي توجهها الحكومة إلى خلاص أجور الموظفين عوض إستثمارها في الإنتاج، وكان هذا الشرط وغيره من الشروط المجحفة قد رفضها الزعيم الحبيب بورقيبة ثم الرئيس زين العابدين بن علي رحمهما الله، رفضا قاطعا، إيمانا منهما بأن تطبيقها سيؤدي إلى ٱنفجار إجتماعي كما حدث في كل البلدان التي رضخت لها!
وهو ما ذكر به العديد من الخبراء التونسيين والأجانب وحذروا منه، لكن حكومة إلياس الفخفاخ نظرت إلى المسألة من جانب واحد ( كما فعل الصادق باي ووزيراه مصطفى خزندار ثم مصطفى بن إسماعيل تماما) وهو البحث عن التقليص من العجز التي تعاني منه الميزانية بسبب الأخطاء الفادحة التي إرتكبتها الحكومات السابقة وعجزها عن تطبيق القوانين وردع معطلي الإنتاج.
وفي هذا السياق كان على الحكومة الحالية مسك الثور من قرنيه وفك الإعتصامات التي تعطل إنتاج الثروات الطبيعية في العديد من المناطق والتي تكلف الميزانية عشرات الآلاف من المليارات الكفيلة بالقضاء على العجز أو التقليص منه بنسبة كبيرة عوض إثقال كاهل المواطنين من كل المستويات بالأداءات المجحفة، فالعديد من القطاعات الهامة عمومية كانت أم خاصة أعلنت رفضها لهذه السياسة محذرة من تداعياتها ومؤكدة إستعدادها للنزول إلى الشارع، كما عبر الخبراء الإقتصاديون والإجتماعيون من مغبة الإنسياق وراء الحلول السهلة التي تمعن في المس من مصالح المواطنين، وهي تحذيرات لم يعرها خبراء الحكومة ومستشاروها إهتماما، وهم القابعون في مكاتبهم المريحة بعيدا عن مشاغل الناس ومعاناتهم اليومية، فمثل هذه السياسات يجب أن تراعي مصلحة المواطن في المقام الأول وتقرأ ألف حساب لردود فعله وإلا إرتدت على أصحابها بشكل كارثي لا يمكن إصلاحه بعد فوات الأوان.
على الحكومة تجنب الوقوع في الفخ الذي سقطت فيه حكومات خارج حدودنا وكان مآلها سيئا، ودعوة خبرائها إلى مراجعة هذه السياسات وتعديلها حتى لا تكون سببا مباشرا في ثورة إجتماعية لن تكون بلادنا المنهكة قادرة على تحملها.
الحلول الناجعة موجودة ولكنها متروكة
إن بعض الحلول متوفرة وفي متناول الحكومة إن هي أثبتت قدرتها على تطبيق القانون، وردع كل معطلي الإنتاج في البلاد ومطاردة الفاسدين والمتحيلين والمهربين، ومواجهة الفوضويين ومحرضيهم من أصحاب الأجندات التخريبية المفضوحة، ففي تلك الحال سيعود الإنتاج إلى وضعه الطبيعي ويأخذ التصدير نسقا تصاعديا، ويقبل المستثمرون التونسيون والأجانب على توظيف أموالهم في بلادنا وبعث مشاريع قادرة على تشغيل العاطلين عن العمل، ولم تعد لنا، تبعا لذلك حاجة لتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
إن المسألة ليست بالسهولة التي يتصورها “خبراء المكاتب الفارهة” الذين تم اختيارهم على أساس الولاءات وفي إطار المحاصصة الحزبية فضعوا هذه السياسات ولم يراعوا ردود فعل المواطنين ولا حتى إستخلاص العبرة من تجاربنا السابقة وأقربها إلى الأذهان “إنتفاضة الخبز” التي إشتعلت نيرانها منذ ست وثلاثين سنة بسب الزيادة بعشرة مليمات في سعر الخبزة الواحدة !
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك