إن الجدل القائم حول المرسوم الأخير المتعلق بالمعرف الوحيد والذي سيزداد مستقبلا يعتبر نقلة نوعية في الحوار المجتمعي وارتقاء به نحو مضامين وقضايا حقيقية تهم مشاغل الناس، فقد سمعنا جدلا حول الأمر المتمم للمرسوم يتعلق بحساسية مبادئ وقيم حقوقية، والأكثر طرحا بين النخب هو أساسا في علاقة بحساسية ورهافة تأمين المعلومة والمحافظة على المعطيات الشخصية وخصوصية الأفراد تماشيا مع احترام الدستور ومبادئ الديمقراطية الناشئة في الجمهورية الثانية للدولة التونسية.
بقلم حافظ غربى اليحمدى *
لقد تعثرت تجربة المعرف الوحيد في تونس منذ سنوات رغم مطالبة العديد من الأطراف السياسية والنخب الوطنية بالتسريع في إتمام إطارها التشريعي ثم تجسيدها على أرض الواقع نظرا لأهميتها لبناء مناخ الأعمال الناجع والمحفز في بيئة ذات جودة عالية للحياة، تبسط فيها الإجراءات للمواطن وتعوض الخدمات الإلكترونية التعقيدات والتنقل والانتظار بإنجاز مشروع التحول الرقمي الشامل.
الهوية البيومترية الرقمية ركيزة لترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة
في المقابل شهد مشروع المعرف الوحيد نجاحات كبيرة في العالم وأصبح معمولا به في عديد الدول لبناء مجتمع المعرفة، إذ تعتبر بعض الإحصاءات التي قدمها المنتدى الاقتصادي العالمي هامة وخطيرة جدا.
من بين 7.7 مليار شخص يعيشون في الأرض، هناك 3.4 مليار شخص لديهم شكل من أشكال الهوية البيومترية الرقمية، مقارنة بـ 3.3 مليار شخص لديهم هويات عادية مثل بطاقة التعريف الوطنية المعتمدة عندنا اليوم في تونس. ولسوء الحظ، لا يزال هناك حوالي مليار شخص بدون وجود رسمي في العالم. يعيش نصفهم في القارة الإفريقية، التي يبلغ مجموع سكانها 1.3 مليار نسمة.
من وجهة نظر الاقتصاد الكلى Macroéconomique، يسهل مشروع المعرف الوحيد على الدولة توسيع قاعدتها الضريبية بشكل حتمي عبر القضاء على عمليات التهرب الضريبي وتنويع إيراداتها ومصادر دخلها، كما يساهم في تطوير الاقتصاد الرقمي وتركيز السيادة الرقمية الحقيقية، ومن وجهة نظر الاقتصاد الجزئي أو Microéconomique يعتبر المعرف الوحيد مدخلا لتأسيس الهوية الرقمية التي هي ركيزة لترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة كالشفافية واحترام تبادل المعطيات الشخصية بين القطاعات والمؤسسات وحتى في تطوير العلاقات الخدماتية ومنسوب الثقة بين الدولة ومواطنيها.
حول مفهوم المعرف الوحيد
منذ سنة 2015، تمّت المصادقة الأولى في تونس على مفهوم المعرّف الوحيد من قبل المجلس الاستراتيجي للاقتصاد الرقمي، على أنه منظومة ذات مرجعية معلوماتية وطنية موحدة تربط مختلف المنظومات المعلوماتية الوطنية والقطاعية. في المقابل ذهب البعض الى تعريف المعرف الوحيد انطلاقا من مفهوم سياسي ببعد هيكلي تنظيمي حول المسؤولية والإشراف والتصرف وتأمين خزن المعلومات. أطراف أخرى انطلقت من مفهوم حقوقي، في علاقة بحرية الأشخاص وحماية معطياتهم الشخصية. وهناك من رأى أن المعرف الوحيد هو سلسلة من الأرقام تسند للمواطن أو الى كلّ شخص طبيعي منذ ولادته وتلازمه كجزء من هويته الرقمية حتى بعد وفاته بمدة زمنية يحددها القانون.
وفى هذا السياق، أوضح الأستاذ شوقي قداس، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصيّة، أنّ المعرف الوحيد هو سجل سيساعد الدولة والمجتمع على وجود قاعدة بيانات محينه توفر الخدمات مع المحافظة على احترام المعطيات الشخصية للأفراد.
أما وزير الشؤون المحلية لطفي زيتون، فقط أوضح أن المعرف الوحيد هو قاعدة بيانات تهمّ كل مواطن تونسي منذ ولادته وتتضمّن جميع البيانات والمعطيات الخاصة تكون مخزّنة في مكان آمن تابع لمؤسسات الدولة كالمركز الوطني للإعلامية، ويشرف على استعماله مجلس مكون من كل الوزارات، بما فيها وزارات السيادة.
غير أنه في التعريف الأخير، كانت عبارة التضمين لجميع البيانات والمعطيات الخاصة بالأفراد في مكان واحد غير دقيقة، لآن المعرف الوحيد هو المفتاح أو الوسيلة للتقاطع والربط بين قواعد بيانات القطاعية الأخرى للوصول الى المعلومة المطلوبة وليس جمعها فى قاعدة واحدة.
التجارب في العالم ومقارنتها بالتجربة التونسية
رغم المسائل والاختلافات المطروحة اليوم بكثرة حول قضايا العولمة والرقمنة التي يعتبرها البعض خطرا على مبادئ وحقوق الإنسان الكونية، تعتبر انطلاقة التجربة التونسية رائدة وفريدة من نوعها خاصة بعد ضم الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية كعنصر فاعل وأساسي في تصميم ورسم السياسات لهذا المشروع وتجسيده على أرض الواقع.
في العالم هناك تجارب رائدة، مثل بعض دول الاتحاد الأوروبي، ورغم ذلك هناك انقسامات بين الدول في مقارباتها لتشريع المعرف الوحيد، هناك دول :
• تمنع تشريعه مثل ألمانيا والنمسا والبرتغال حيث تعتبره متناقضا دستوريا،
• دول أخرى مثل فرنسا، المعرف الوحيد هو بالضبط المعرف الاجتماعي،
• وهناك دول أخرى مثل إيطاليا، بلجيكيا والدنمارك تعتمد المعرف الوحيد بطريقة مختلفة، فهو معرف اجتماعي وحيد باستعمالات واسعة في كل هياكل المنظومات القطاعية المتفرعة كالصحة، والشؤون الاجتماعية وحتى الأمنية،
• إسبانيا مثلا تستعمل رقم البطاقة الوطنية كالمعرف الوحيد.
تعتبر إستونيا من البلدان الرائدة التي نجحت في مشروع رقمنه الإدارة، إذ اعتمدت منذ البداية على مشروع المعرف الوحيد، ووضعت حماية البيانات في قلب المجتمع الرقمي الذي يركز على المواطن، والذي يقوم على الثقة. إذ لا يوجد ملف مركزي كبير، لكن الإدارات تتبادل مع بعضها البعض بفضل البنية التحتية المشتركة لتكنولوجيا المعلومات وفقًا لحقوق الوصول المحددة للغاية. والمميز في التجربة الاستوائية هي استكمالها للهوية الرقمية لكل مواطن.
بالنسبة للتجربة في الهند والتي تمتاز بسجل المعرف الوحيد الأعظم في العالم بمعطيات بيومترية حيث يحتوي على 1.3 مليار نسمة، لكن هذه التجربة تخللتها عدة مشاكل متعلقة بالمقاربة الأمنية وإخلالات تخص استغلال المعطيات الشخصية للأفراد وخاصة الأمن والسلامة المعلوماتية لقاعدة البيانات التي شهدت ثغرات عدة منها أزمات الهجوم والخروقات الخارجية.
أخيرا لا يمكن ألا نذكر بعض التجارب الإفريقية في هذا المجال، كغانا وروندا والكوت ديفوار وبوكينا فاسو الذين كانوا سباقين في إنجاز المعرف الوحيد غير أن المقاربة الحقوقية واحترام المعطيات الشخصية للمواطنين لم تكن في الموعد ولا تزال تشوبها العديد من التجاوزات، فمثلا التجربة في الكوت ديفوار جمعت المعلومات الخاصة والبيومترية لكل مواطنيها في سجل واحد سمى بالسجل الوطني للأشخاص الطبيعيين دون أدنى اعتبار للحقوق والواجبات في استغلال المعطيات الشخصية للأفراد.
أما في تونس فقد تنزل مشروع المعرف الوحيد في ظرف اجتماعي صعب خلال أزمة الكورونا أمام عدد من المشاكل تعرضت لها الحكومة مثل استحالة مؤسسات الدولة تحديد أو معرفة الفئات الاجتماعية الهشة التي تستحق الدعم ولا تشملها التغطية الاجتماعية على غرار العائلات المعوزة ومحدودة الدخل، في واقع تعددت فيه المنظومات المعلوماتية الوطنية والقطاعية مثل بطاقة التعريف الوطنية أو المعرف الوحيد للضمان الاجتماعي أو المعرف الوحيد لمنظومة الحالة المدنية المعروف بمضمون الولادة وغيرها من المنظومات الأخرى المشتتة.
وفى ما يلي نورد عدد من الاستنتاجات والملاحظات التي نرجو أخذها بعين الاعتبار ومعالجتها من أجل انطلاقة سليمة وناجعة في عملية الإنجاز:
1) لقد استثنى المرسوم المقيمين والطلبة الأجانب والمستثمرين وأفراد عائلاتهم من المعرف الوحيد، وهو استثناء من حق التمتع بجودة حياة أحسن في بيئة محفزة وفاعلة لأن رقمنه الإدارة والخدمات الكترونية وتبسيط الإجراءات في كل القطاعات كالمؤسسات المالية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، والصحية والتعليمية، لن تطال إلا المنخرطين في منظومة المعرف الوحيد، رغم أن الدولة التونسية راهنت في مشروعها الوطني الاستراتيجي PNS، تونس الذكية 2016-2020، على الانفتاح واستقطاب الاستثمار الأجنبي من أجل تعزيز وتطوير الاقتصاد الوطني ودفع محركات النمو، أما اللجوء الى الحلول الاستثنائية فلن يفدى نجاعة في تصميم المشاريع المستدامة والشاملة « With no one should be left behind».
2) يجب توضيح المسار حول الانتقال الى المرحلة الثانية تدريجيا وهي الهوية الرقمية وتمكين المواطن من بطاقة ذكية بيومترية متعددة الخدمات مطابقة للمواصفات العالمية الحديثة، وتحترم خصوصية الأفراد في مجالي وثائق الهوية وجوازات السفر، فهو مخرج لا مهرب منه أمام توصيات المنظمة الدولية للطيران المدنى وديوان الطيران المدني والمطارات العالمي بتعميم السفر بالجواز البيومترى خلال السنوات القادمة.
3) التوجه نحو إخفاء المعرف الوحيد على المواطن بتعلة أنه رقم للاستعمال الداخلي للمنظومة للربط والتقاطع بين سجلات المعطيات القطاعية الأخرى، يعتبر عكسيا لأهداف المشروع لأنه وضع لمصلحة المواطن للاستظهار به كمعرف وحيد في كل البطاقات القطاعية مع مسؤولية استعماله، ثم إنه معطى شخصي منظم بقانون للأشخاص الطبيعيين الذين لهم حق الاطلاع عليه واستعماله، ففي الولايات المتحدة مثلا، تجد المعرف الوحيد وهو SSN –Social Security Number – مرسوم في بطاقة الهوية ورخصة السياقة وبطاقة العمل مع مسؤولية استعماله على عاتق صاحبه.
4) تطرح عدد من قواعد البيانات مشكل تشريعي للربط بينها كالحالة المدنية والربط الالي بمنظومة بطاقة التعريف الوطنية يجب إيجاد الحلول السريعة لحلها.
5) وأخيرا لا يزال مشروع القانون المنظم لحماية المعطيات الشخصية عالقا في البرلمان بدون مصادقة وهذا يشكل قلقا تشريعيا خاصة أن الهيئة هي مكون أساسي في فريق مشروع المعرف الوحيد.
* مهندس أول وخبير دولي في سياسات حوكمة الأنترنت و تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
شارك رأيك