إستقبل رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ أخيرا، و بنصيحة من بعض مستشاريه المؤثرين الذين يعرف القاصي والداني كيفية إنتقائهم وأسبابها، مجموعة من “سلاحف الأنستاغرام”، على خلفية ما يتمتعون به من “شهرة” مختزلة في حيز الإشهار للموضة وأدوات الجميل وٱصطياد فرص العمل في مجالات السنما والتلفزيون.
بقلم مصطفى عطية *
حدث هذا قبل أن يفكر رئيس الحكومة وطاقمه الإستشاري الضخم في تنظيم لقاءات مع كبار علماء ومفكري ومثقفي وإعلاميي واقتصاديي البلاد، الذين يحملون رؤى وأفكارا ومناهج لإنقاذ الوطن من الإفلاس الفكري والإقتصادي والسياسي والأخلاقي، الذي ينبئ بقرب اندلاع عاصفة هوجاء على البلاد لا تبقي ولا تذر.
“الميديا الجديدة” وكذبة “نجومها”
يرى البعض وخاصة من أصحاب هذه المبادرة والأبواق المأجورة التي هبت لدعمها أن العصر هو عصر الأنستغرام وبقية شبكات التواصل الإجتماعي وأن الحكومة ورئيسها حريصون على مواكبة طغيان “الميديا الجديدة ” على المشهد الإتصالي والقطع تدريجيا مع الأساليب القديمة، لأن إلياس الفخفاخ هو من هذا الجيل الجديد المهووس بكل أشكال “الميديا الجديدة” وفرسانها، وهي “ثقافة العصر” المتمردة على الأنماط الفكرية والثقافية المتوارثة، وتناسى هؤلاء أن هذا “المنطق” متداول منذ ظهرت الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ في الثلث الأخير من القرن الخامس عشر وتجدد مع كل ٱختراع لوسيلة إتصالية جديدة كالصحيفة المكتوبة ثم الإذاعة والسنما والتلفزيون وصولا إلى شبكات التواصل الإجتماعي كالفايس بوك وتويتر والأنستاغرام.
إن المشكل ليس في مواكبة هذه التطورات وتوظيفها في الإتجاه الذي يثمر الإفادة المرجوة، وإنما في الإيهام بأن راكبي سروج هذه الوسائل هم الغاية في حد ذاتها بحكم ما يقال عن “تأثيرهم” على الرأي العام من جهة، وفي جعل التعامل معهم أولوية الأولويات في حكومة بلد مفلس على جميع المستويات ومهدد بحصول كارثة مدمرة لٱستقراره من جهة أخرى.
أدرك شخصيا غاية بعض أصحاب شركات الإتصال والإشهار والإعلان المتعاملين مع محيط رئيس الحكومة من تمرير مثل هذه المبررات، فهي غاية تجارية وٱنتفاعية بالأساس، لا علاقة لها، جملة وتفصيلا، بالإصلاحات العاجلة والآجلة التي ينتظرها الشعب من هذه الحكومة الهشة في تركيبتها والغامضة في أهدافها.
أمثلة ساطعة تفند أسطورة “النجوم” الوهمية وتكرس تأثير المفكرين والعلماء
سأذكر إلياس الفخفاخ بأن المصلحين الكبيرين خير الدين والجنرال حسين تبادلا مجموعة من الرسائل (جمعها العلامة الراحل أحمد عبد السلام ) تناولا فيها الوضع المتدهور جدا في البلاد في منتصف القرن التاسع عشر، وخلصا إلى التأكيد على أن مرد ذلك هو خضوع الباي لباطنة من عديمي العلم والمعرفة وتهميشه وإقصائه للعلماء وذوي الفكر والإنارة وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إفلاس البلاد وٱستعمارها.
لن أكتفي بهذا وسأضرب أمثلة من التاريخ الدولي المعاصر تحمل دلالات أكثر دقة وعمقا ورمزية، فعندما طغى تأثير سينما هوليود في الولايات المتحدة وأصبح لنجومها القدرة على مصادرة عقول الناس، لم يستنجد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون بريتا هيوارث و غريس كلي ومارلين مونرو لٱستشارتهن في كيفية الخروج من مستنقع حرب فياتنام، ولكنه هرع للإستنجاد بالمفكر صمويل هنتنڨتن وكلفه بمهمة استقصاء الأمر على الأرض، بالرغم من أن تأثير نجوم ونجمات السنما الأمريكية في ذاك الزمن أكثر مليون مرة من تأثير سلاحف الأنستغرام اليوم.
ولما وجد الجنرال ديغول نفسه في مأزق ثورة ماي 1968 لم يطلب مقابلة نجوم التلفزيون الذين كانوا يفرضون على الناس البقاء في بيوتهم لمتابعة برامجهم أو الممثلة بريجيت باردو التي كانت قد سلبت عقول الفرنسيين بأفلامها التي تتنازع القنوات التلفزية على بثها، بل وضع مسؤولية التدبير لإيجاد الحلول للأزمة الفرنسية على عاتق المفكر والأديب أندريه مالرو وجعل منه مستشاره الأكبر ووزيره المقرب، وقد كان تأثير نجوم التلفزيون في ذاك العهد أكبر بآلاف المرات من تأثير سلاحف الأنستغرام في زمننا هذا.
وحتى إذا ما رجعنا إلى تاريخنا التونسي المعاصر نجد أن الزعيم الحبيب بورقيبة لم يلتجئ، وهو يقود “جهاده الأكبر” ضد الأمية والفقر والأمراض، بالنجمتين الأسطوريتين زينة وعزيزة اللتين ألهبتا عقول التونسيين، وإنما إتكأ على مفكرين أمثال محمود المسعدي وأحمد بن صالح والشاذلي القليبي ومحمد الطالبي في حين كان تأثير الراقصتين الشهيرتين على التونسيين أشد من تأثير كتب المسعدي والطالبي عليهم !
دروس إجلال الفكر والمعرفة
لم نسمع بأن فرانسوا ميتران إستقبل يوما نجوم التلفزيون لٱستشارتهم في أحوال فرنسا ولكننا نعلم علم اليقين أنه كان يتناول فطور الصباح يوميا مع كبار المفكرين والمثقفين والعلماء والكتاب والصحفيين من اليمين واليسار أمثال جون دورميسون وجاك أتالي (وكان مستشاره الخاص وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر) وكلود أنبار وجون فرانسوا ريفال وجون بيار ألكاباش وجون دانيال وغيرهم.
ولم نسمع بأن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إستدعى ناشطي الفايسبوك، في ذروة ظهور شبكات التواصل الإجتماعي وطغيانها، لٱستشارتهم في الشؤون الأمريكية العاجلة رغم أنه إستغل هذه الشبكات في كسب الإنتخابات الرئاسية مرتين متتاليتين، ولكنه كان يستمع بٱستمرار لنصائح المفكر والمستشرق برنار لويس رغم أنه كان من مستشاري سلفه اليميني جورج بوش الإبن، وحتى الرئيس الأمريكي الحالي المهووس بتويتر حيث يغرد فيها يوميا لم يستنجد بنجوم هذه الشبكة لٱستشارتهم في كيفية مواجهة الغضب الشعبي العارم في البلاد، ولكنه إستدعى إلى مكتبه كبار علماء الإجتماع والأنتروبولوجيا والأعراق طالبا منهم المساعدة على إيجاد حلول للثورة الشعبية المتنامية في بلاده.
إن الفارق شاسع جدا بين أن تستغل الظواهر الإتصالية لتمرير الأفكار والمناهج وبين أن تستدعي “نجوم” هذه الظواهر لٱستشارتهم في شؤون البلاد، فما هم في نهاية الأمر إلا ما يشبه الزبد اللاإرادي لهذه المحامل الإتصالية والذي سيذهب حتما جفاء !!!
إن التخلي عن المفكرين والعلماء وأصحاب المعرفة في كل المجالات وتعويضهم بنجوم الصور العابرة تحت مسميات مختلفة وبتعلة مواكبة التطورات في “الميديا الجديدة ” هو ضرب من ضروب الإفلاس الفكري والإنتحار السياسي، ولن يجني منه الشعب شيئا بٱستثناء تلك الشركات ذات المسمى الإتصالي المخادع التي تبتز المؤسسات والمسؤولين لتأمين تجارتها وضمان منافعها.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك