على المسؤولين السياسيين الذين إحترفوا التنظير في المكاتب الفاخرة والصالونات المكيفة والبلاتوهات الإذاعية والتلفزية المعدة على قياس شروطهم، ودأبوا منذ ارتقائهم إلى سدة النفوذ على إلقاء المواعظ دون الإلتزام بها، أن ينزلوا من عليائهم ويزوروا الأحياء الشعبية والفضاءات العمومية ويستمعوا إلى الناس الملتاعة وسوف يكتشفون أنهم في واد والشعب الذي يدعونه إلى التضحية في واد آخر.
بقلم مصطفى عطية *
كنت طفلا صغيرا وقد خرجت لتوي من القسم بالمدرسة الإبتدائية بحينا عندما إعترضني والدي بالباب الخارجي وحملني معه إلى إجتماع شعبي في ساحة مفتوحة حيث كان الوزير القوي آنذاك أحمد بن صالح يخطب بحماس فياض ويسرد فضائل سياسة التعاضد، وضرورة التحلي بنظافة اليد والنزاهة والزهد في ملذات الدنيا، داعيا الناس إلى الإنخراط في حياة التقشف والإكتفاء بالقليل وعدم السعي وراء المنافع والمصالح والإمتيازات. مازالت صورته وهو يهتز وينتفض ويقوم بحركات هي أقرب إلى “المسرح الخطابي” منها إلى التلقائية والعفوية، تسكن ركنا قصيا في مخيلتي.
صرخة مواطن مقهور
عندما شارف صاحب الوزارات العديدة، أحمد بن صالح، على الإنتهاء من عرضه التحفيزي أجال بنظره في الجموع الحاضرة، وكانوا في أغلبهم من الفقراء والمعدمين الذين خسروا ملكيتهم لأراضيهم بعد أن دخلوا في شراكة فوضوية مع آخرين، ودعاهم إلى شد أحزمتهم والإقتصاد في الإستهلاك والتقشف لمواجهة الأوضاع الصعبة في البلاد، وما إن أنهى كلامه حتى آنبرى رجل طاعن في السن رث الهندام، نهش البؤس وجهه الشاحب النحيف وصاح في وجهه : “تدعونا إلى التقشف وأنت ترتدي لباسا ثمنه يكفي للإنفاق على عدة عائلات معوزة طيلة أشهر، وقد سلبته من جيوبنا التي نخرها التفليس المتواصل لسياستكم، ألم تشاهد كيف أصبحنا جلدا على عظم وأنت تنعم بالصحة والعافية والسيارة الرفيعة والإمتيازات والمنافع والخدم والحشم؟”.
بقي أحمد بن صالح مشدوها من هول المفاجأة الصادمة، إذ لم يكن يتخيل أبدا أن يجد ذاك الشخص كل هذه الجرأة لمواجهته بما لا يريد سماعه، في حين تكفلت المليشيات التي جاءت للتصفيق والمراقبة والحراسة بٱختطاف الرجل الذي وجد الشجاعة الكافية للرد بصراحة قاسية على الوزير الذي جاء للضحك على ذقون الناس ! ولم يعرف أحد إلى يوم الناس هذا مصير ذاك الرجل.
يسلبونه قوت يومه ويطالبونه بالتضحية
تذكرت هذه الحادثة التي مازالت محفورة في ذاكرتي كما تحفر الجروح والندوب، وأنا أتابع النداءات التي يطلقها يوميا المسؤولون في السلطة ومن يسير في ركابهم، والتي تدعو المواطنين المسحوقين إلى مزيد التضحية، في حين أنهم أولى بإعطاء المثل في التقليص من حجم الإمتيازات التي يتمتعون بها وردع أنفسهم والآخرين الذين تحت إمرتهم، عن الفساد بكل مسالكه واستغلال النفوذ بجميع أشكاله والكسب الحرام وتجاوز القوانين، فالتضحية والنزاهة ونظافة اليد ليست شأن المواطنين المنهوكين فقط وإنما هي جماعية أو لا تكون !
بل أن المسؤولين أولى بالتقيد بها ليكونوا مثالا لبقية أفراد الشعب. أ لا يكفي هذا الشعب المحبط عشر سنوات كاملة من الصبر والجلد، والتضحية في مواجهة الضرائب والأداءات والرفع الآلي في أسعار كل ضروريات عيشه، لأن الكماليات لم تعد في متناوله ، حتى نقهره قهرا بفساد المسؤولين وحرصهم الشديد والمفضوح على وضع مصالحهم فوق مصالح الوطن والشعب.
إنزلوا إلى الشوارع
على المسؤولين السياسيين الذين إحترفوا التنظير في المكاتب الفاخرة والصالونات المكيفة والبلاتوهات الإذاعية والتلفزية المعدة على قياس شروطهم، ودأبوا منذ ارتقائهم إلى سدة النفوذ على إلقاء المواعظ دون الإلتزام بها، أن ينزلوا من عليائهم ويزوروا الأحياء الشعبية والفضاءات العمومية ويستمعوا إلى الناس الملتاعة وسوف يكتشفون أنهم في واد والشعب الذي يدعونه إلى التضحية في واد آخر، وأن فسادهم المفضوح قد زاد في كراهية أفراد الشعب لهم واضطرام نيران التمرد في قلوبهم، مما قد ينبئ بٱنتفاضة عارمة لا تبقي ولا تذر وتسقط السقف المتداعي على رؤوس الجميع.
صحفي وكاتب.
شارك رأيك