ظهر الإرتباك الشديد مجددا على الديبلوماسية التونسية بعد التطورات الخطيرة التي شهدتها الأحداث في ليبيا، وبدا جليا وواضحا أن التجاذبات العنيفة بين رئيس الجمهورية، والشأن الديبلوماسي من صلاحياته، وحركة النهضة التي تريد أن تفرض رؤيتها الخاصة في هذه المسألة تحت غطاء البرلمان الذي يرأسه زعيمها راشد الغنوشي، قد أضرت ضررا فادحا بهذا القطاع الحيوي الذي كان يمثل مفخرة التونسيين.
بقلم مصطفى عطية *
بالإضافة إلى الأحداث في ليبيا السياسة الخارجية التونسية أمام رهانات أخرى مثل التوتر المتزايد في منطقتي الخليج والشرق الأوسط وإفريقيا وعودة لبنان مجددا إلى بؤرة التجاذبات التي كانت قد عرضتها في السابق إلى حروب مدمرة لم تكن فيها إلا ساحة وغى لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
سقوط صورة ” الإعتدال الديبلوماسي التونسي “
كانت الديبلوماسية التونسية طيلة العهدين السابقين إحدى نقاط قوة النظام التونسي ومصدر إعتداله وٱحترام الأنظمة الأخرى له، وحتى في حالات الأزمات مع بعض البلدان، حافظت الديبلوماسية التونسية على هدوئها وسلاستها وتمكنت من تطويق تلك الأزمات بأقل ما يمكن من الخسائر والتكاليف، لكن بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق منذ ما يقرب عن عشر سنوات، إنقلب حال الديبلوماسية التونسية رأسا على عقب وتدهورت علاقات بلادنا مع العديد من البلدان الشقيقة والصديقة بشكل متسارع حتى تشوهت تلك الصورة التي صنعت، طيلة خمسة عقود ونصف من الزمن، ما يسمى ب”الإعتدال الديبلوماسي التونسي”.
تشهد الوقائع والأحداث أن الديبلوماسية التونسية مثلت حجر الزاوية في سياسة دولة الإستقلال والبناء والتحديث بزعامة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وذلك لتأمين صداقة كل البلدان دون تفرقة إيديولوجية أو دينية، صيانة لمصالح بلادنا وحماية لسيادتها، فحتى فرنسا التي سلطت علينا عسفا إستعماريا غاصبا طيلة ثلاثة أرباع القرن تخللتها معارك دامية وسقوط العديد من الشهداء عاملناها كدولة صديقة وٱرتبطنا معها بمصالح مشتركة.
وقد أبدت تونس البورقيبية في تلك الفترة، وبالرغم من هشاشتها الإقتصادية والإجتماعية وضعف إمكانياتها وقلة مواردها وصغر حجمها، حيادية مثالية جلبت لها إحتراما دوليا كبيرا وبوأتها مكانة الوسيط في العديد من النزاعات في إفريقيا والشرق الأوسط بالخصوص. كان بورقيبة حريصا على أن تبقى تونس صديقة للجميع تأمينا لٱستقلاليتها في عالم متعدد المحاور وتخيم عليه الحرب الباردة بين معسكرين يتقاسمان النفوذ.
واصل نظام بن علي التمسك بالمبادئ والقيم البورقيبية المعتمدة في المجال الديبلوماسي مدعما المدرسة التونسية الموسومة بالحيادية والإعتدال والهدوء، وإن حاد عنها في بعض الأحيان، كالإنحياز لنظام الرئبس العراقي صدام حسين في غزوه للعراق والذي كانت نتائجه كارثية على بلادنا، ولكنه سرعان ما تدارك الأمر وعاد إلى مرجعيته الأساسية التي جنبت تونس الكثير من تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية المتعاقبة على امتداد أكثر من عقدين من الزمن.
تفشي ظاهرة الديبلوماسيات الموازية
عندما إندلع الحراك الشعبي مطيحا بالنظام السابق دخلت البلاد في فوضى عارمة وعم الإنفلات جميع الميادين وفقدت السلطة المرتبكة مقاليد السيطرة على الأوضاع تاركة الحبل على الغارب للجماعات والأحزاب والتيارت القادمة على سروج الحراك الشعبي رغم أنها لم تشارك فيه بل التحقت به في الساعة الخامسة والعشرين، لإنشاء ديبلوماسياتها الموازية طبقا لٱنتماءاتها الإيديولوجية وأجندات البلدان التي إحتضنتها ومولتها ودعمتها، وتفاقم هذا الوضع أكثر في الفترة الإنتقالية التي تبوأ فيها محمد المنصف المرزوقي رئاسة الجمهورية مؤقتا بالرغم من أنه لم يؤمن مقعده في هذا المجلس إلا بسبعة آلاف صوت من الفواضل !!!
بادر المرزوقي بتغيير سياسة عدم الإنحياز إلى إنحياز كامل ومعلن للدول التي آوته زمن الغربة ووظفته في مؤسساتها ودعمته بعد سقوط النظام السابق، و أدخل البلاد في مواجهات هستيرية مع دول شقيقة وذات علاقات تاريخية متينة مع بلادنا وتربطنا وإياها مصالح إستراتيجية وٱقتصادية هامة جدا كالجزائر ومصر والإمارات العربية المتحدة وسوريا، وأخرى صديقة كروسيا الإتحادية، ومن تداعيات هذه السياسة أن شهدت الديبلوماسية التونسية إنهيارا كاملا وأصبحت مرتهنة لمواقف بعض البلدان الإقليمية المساهمة في إذكاء نيران ما كان يسمى ب: “الربيع العربي” قبل تحوله إلى خراب عام لم تسلم من إمتداداته الكارثية البلدان الداعمة له .
الإرث الثقيل وضياع المصالح الوطنية
كان إرث هذا الإنهيار الديبلوماسي ثقيلا لم يفلح الباجي قائد السبسي وقيس سعيد في تجاوزه وإصلاح ما يمكن إصلاحه ، وذلك لتمسك بعض الأحزاب المشاركة في الحكم بٱنتمائها لأجندات بعض البلدان الداعمة لها وإعلائها على المصلحة الوطنية.
وهكذا أصبحنا نعيش في تونس زمن تعدد الديبلوماسيات، ديبلوماسية رسمية غامضة ومرتبكة وغير ذات تأثير، وديبلوماسية موازية نشيطة وفاعلة، وديبلوماسية حزبية تأتمر بأوامر القوى الإقليمية والدولية، أضيفت إليها ديبلوماسية “برلمانية” وما هي ببرلمانية وإنما مشدودة إلى مواقف رئيس البرلمان وحزبه، لينعكس كل ذلك على أوضاع البلاد ويزيد في تعميق الأزمات المستفحلة فيها.
إن التذبذب والإرتباك وعدم وضوح الرؤية لدى صناع القرار الديبلوماسي في بلادنا وما تبع ذلك من سلبية في التعامل مع المستجدات والتحولات الإقليمية ذات التأثير المباشر على أمننا وٱستقرارنا وخاصة المسألة الليبية، يؤكد إضاعة تونس لقرارها المستقل وهي ضربة موجعة ومخزية لسيادتها.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك