إن كنت من أنصار عبير موسي أو من غلاة خصومها فالنزاهة والحيادية والأخلاق تفرض الإعتراف بجرأتها وقوة حجتها وفصاحتها الخطابية ونبوغها السياسي، وقد أكدت امتلاكها لهذه الصفات القيادية أكثر من مرة، وآخرها أمس الأحد 5 جويلية 2020، خلال الوقفة الإحتجاجية التي نظمتها وسط العاصمة تونس.
بقلم مصطفى عطية *
واصلت عبير موسي زحفها القوي على المنابر بشتى أنواعها لٱستعراض قوتها الجماهيرية الصاعدة، وأكدت، مرة أخرى، ثباتها على المبدإ وصمودها، كما لم تصمد إمرأة من قبل، أمام الإقصائيين والإجتثاتيين وأعداء الدولة المدنية والتكفيريين وحماة الإرهابيين والمتذيلين لبلدان أجنبية، وهي التي كانت، أيام الجمر، خير من ألف رجل دستوري وتجمعي، إذ وقفت في موقعها ولم تتزحزح عنه قيد أنملة، يوم هرب الآخرون وٱختفوا وغرسوا رؤوسهم في الرمال وارتدوا الملابس النسائية حتى لا يتفطن لوجودهم أحد، بل فيهم من”قلب الفيستة” وٱنبطح وقدم آيات الولاء للقادمين الجدد على سروج حراك شعبي لم يساهموا في إندلاعه من قريب أو بعيد.
صمود وزحف وشيطنة
إن كنت من أنصار عبير موسي أو من غلاة خصومها فالنزاهة والحيادية والأخلاق تفرض الإعتراف بجرأتها وقوة حجتها وفصاحتها الخطابية ونبوغها السياسي، وقد أكدت امتلاكها لهذه الصفات القيادية أكثر من مرة، وآخرها أمس الأحد 5 جويلية 2020، خلال الوقفة الإحتجاجية التي نظمتها وسط العاصمة وتحولت إلى مظاهرة شعبية بمشاركة الآلاف من أنصارها وغير أنصارها الذين وجدوا في مواقفها متنفسا لما يعتمل في عقولهم وقلوبهم من غضب واستنكار لما يحدث في البلاد منذ عشرية كاملة من التردي والفوضى والفساد والصراعات السياسية.
وبالرغم من رصيدها السياسي القصير نسبيا إذ هي لم ترتق في المسؤوليات القيادية المتوسطة إلا سنة 2009 كأمينة عامة مساعدة بالتجمع الدستوري الديمقراطي فقد تم إقتراحها منذ سبع سنوات من قبل قياديين دساترة وعلى رأسهم المرحوم حامد القروي لترأس الحركة الدستورية الذي أصبحت تسمى الحزب الدستوري الحر، وذلك كأول إمرأة تقود حزبا سياسيا في تونس، في فترة حاسمة من مسيرة البلاد، إشتد فيها الحنين إلى الماضي بعد تراكم الخيبات، وٱرتفعت أسهم الدساترة والتجمعيين، وأخذ اللهاث وراءهم وٱستقطابهم نسقا تصاعديا، الشيء الذي أثار تسابقا وتنافسا كبيرين في هذا المجال وجعل الأحزاب ذات الثقل البرلماني تجنح إلى استقطاب رموز وكفاءات النظام السابق وحزبه الحاكم، التجمع الدستوري الديمقراطي، وإن استفاد حزب نداء تونس خلال إنطلاقته من زخم الدساترة أكثر من الأحزاب الأخرى بعد أن أكد، علنا، إنتماءه إلى الإرث السياسي والتحديثي البورقيبي، فإن حركة النهضة، العدو التاريخي للدساترة، لم تسقط هي الأخرى حقها في مواصلة إستدراج الإنتهازيين والمخترقين للتجمع من الإلتحاق بخلاياها.
لكن وبالرغم من كل هذه المعطيات وتغير الظروف وظهور مؤشرات تحولات كبيرة في الخارطة السياسية، وتأكيد الأغلبية على ضرورة القطع مع الحقد والكراهية والثأر والثأر المضاد والدعوة إلى إقرار مصالحة وطنية، مازال الكثيرون مصرين على انتهاج مسلك التحريض على الصراع ونشر الإشاعات المغرضة والتخويف من عودة الحزب السابق ومعه عودة الإستبداد .
الإصطفاف وراء النهضة لمواجهة عبير موسي!
أخذت التحذيرات المشحونة بالمبالغة المتعمدة، لدى بعض الأحزاب والتيارات، شكل الشعارات التي لا يكل أنصارها عن ترديدها في كل آن وحين وعند اللزوم وغير اللزوم، وكادت تؤدي، في فترة من الفترات، إلى الوقوع في فخ خطأ فظيع قد يكلف البلاد غاليا، وهو إقرار قانون الإقصاء تحت غطاء “حماية الثورة”، لولا هبة وعي أسقطت هذا المشروع الجهنمي.
مازال الخوف من عودة الدساترة هاجسا مسيطرا على جانب هام من الناشطين في الساحة السياسية الشيء الذي دفعهم إلى الإصطفاف وراء حركة النهضة لمواجهة عبير موسي وحزبها رغم اختلاف مشاربهم ورؤاهم وإيديولوجياتهم مع الحركة الإسلامية ، كالتيار الديمقراطي و ماتبقى من الحزب الجمهوري والتكتل والمؤتمر و قلب تونس وبدرجة أقل حركة الشعب، كما حدث في البرلمان كلما تقدم الحزب الدستوري بلائحة وآخرها تلك التي تطالب بتصنيف الإخوان المسلمين ” حركة إرهابية “، كما دأب البعض من أصحاب الأجندات المشبوهة على العمل جاهدين لتذكية الخوف من صعود حزب يذكر بالحزب القديم وهيمنته، وإضرام لهيب هذا الخوف بشكل إستفزازي ، في حين عمد البعض الآخر إلى شيطنة الدساترة لمآرب أخرى.
حقيقة “الأسطورة” الزائفة
تشكلت في خضم هذه الأجواء الهستيرية، التي غمرت الساحة بعد سقوط النظام السابق، أسطورة ما يسمى “ماكينة التجمع التي عادت إلى الدوران” !!!، بما في الأسطورة من زيف وتضخيم وترهيب.
المتأكد هو ان التجمع لن يعود، ولا أحد، حتى من أنصاره، يرغب في عودته، وقد تشكلت عدة أحزاب ذات مرجعية دستورية بقيادة رموز التجمع ولكنها لم تنجح في استقطاب الدساترة كما جدت محاولات متعددة لتوحيد هذه الأحزاب لكنها باءت بالفشل الذريع لأن التجمع الدستوري الديمقراطي، كان في ما مضى يعمل في إطار هيكلي منظم جدا وعبر مركزية قوية وهياكل جهوية ومحلية نافذة ولوبيات مالية مؤثرة، وقواعد إدارية يقظة، وقد إنهار كل هذا تماما ومعه تفككت آليات الماكينة، كما لم بكن هذا الحزب في السنوات السابقة لقرار حله، قويا مثل ما كان عليه الحزب الإشتراكي الدستوري في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة الذي أنقذته الماكينة الدستورية الفاعلة والحاسمة من السقوط في ثلاث مناسبات على الأقل، بعد فشل تجربة التعاضد أواخر الستينات، وخلال أحداث الصدام بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل في جانفي 1978 ثم في انتفاضة الخبز، جانفي 1984.
وهي الماكينة التي فقدت فاعليتها في العهد السابق وعجزت عن إنقاذ زين العابدين بن علي في الرابع عشر من جانفي 2011، بل ساهمت في إسقاطه، وتؤكد العديد من المعلومات ان التجمع الدستوري الديمقراطي شهد في السنوات الخمس السابقة لحله إنهيارا تدريجيا متسارعا مما أفقده تأثيره في الساحة السياسية والشعبية عموما خاصة بعد أن تم اختراقه بكثافة من قبل الإسلاميين والإنتهازيين وأصحاب الأجندات الخارجية.
الإستفادة من أخطاء الماضي و البناء على أسس صحيحة
هذه الحقائق يعرفها القاصي والداني وعلى رأسهم الراحل حامد القروي مؤسس حزب الحركة الدستورية وخليفته عبير موسي القائد الجديد للحركة تحتى مسمى الحزب الحر الدستوري في استعادة للإسم التاريخي للحزب، وكما كان المؤسس واعيا بصعوبة عودة الحزب المنحل إلى سالف قوته وتأثيرة فإن عبير موسي مقتنعة هي الأخرى شديد الإقتناع بأن الحزب الذي تترأسه، وبالرغم من مرجعيته الدستورية، لن يكون، بأي شكل من الأشكال، بديلا للتجمع الدستوري الديمقراطي وإن نهل من إرثه واعتمد على إطاراته واستند إلى من تبقى من أتباعه، ولكنها عملت مع مجموعة من المتشبعين بالفكر البورقيبي والمٱثر الدستورية على الإستفادة من أخطاء الماضي وبالتالي تثبيت مقومات حزب وسطي معتدل هو إمتداد لتيار وطني متجذر في تاريخ تونس ،وبأنتهاجها لهذا التوجه تمكنت عبير موسي من تثبيت أسس حزب ينمو بسرعة محققا أرقاما قياسية على مستوى الإنخراطات في فترة زمنية محدودة وحضورا في كافة مناطق البلاد وخطابا سياسيا قويا وصعودا في استطلاعات الرأي.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك