مشروع مراجعة جزئية لمثال التهيئة العمرانية لمدينة صفاقس الذي صادق عليه المكتب البلدي لصفاقس في جلسته يوم 9 جويلية 2020 لم يعرض على الجلسة العامّة الاستثنائية للمجلس البلدي يوم الأحد 12 جويلية كما كان مقررا. وفي الحقيقة حاول المكتب البلدي منذ سبتمبر 2018 تمرير هذا المشروع، لكن فشل في ذلك عندما تجنّد المجتمع المدني ضدّه. اليوم هم يريدون تمريره في أربعة أيام.
بقلم عبد الكريم داود *
ولإنارة الرأي العام وإبداء رأيي في الموضوع، أريد الإشارة إلى النقاط الثلاث التالية:
1-حول محتوى المُراجعة المعروضة :
تضمنت المراجعة ستّ نقاط هي (حسب ما ورد في الوثيقة التي ستُعرضُ على المجلس البلدي):
-“تيسير وتنظيم انجاز العمليات الجماعية في المنطقة البلدية (opérations d’ensemble)… بإتاحة الإمكانية للزيادة في الارتفاع (R+11)”.
-“تطوير مركز المدينة بإحداث عمارات شاهقة (IGH -Immeubles à grandes Hauteurs) (R+12) وأكثر”. “السماح بإنجازمآوي سيارات ذات طوابق”.
-“توفير إمكانية إقامة مراكز ترفيه وتنشيط واستراحة”.
-إتاحة الإمكانية لإقامة سكن جماعي في ارتفاع (R+2) على طول الواجهة الشمالية للقنال الحزامية لمياه الأمطار”.
-“إتاحة الإمكانية لإقامة سكن شبه جماعي في ارتفاع (R+2) حسب الشروط المطلوبة ببرمجة مسكن بكلّ طابق…”
2- قراءة نقدية في المشروع:
لا يسمح المجال هنا للدخول في التفاصيل الفنية (رغم أهميّتها القصوى)، لكن تُثير النقطتان الأولى والثانية تساؤلات وتخوّفات عديدة. فبالنسبة “للعمليات الجماعية” فهي تشمل كلّ المنطقة المركزية (ما عدا باب البحر) والمنطقة شبه المركزية والضواحي (أي الأجنّة) بارتفاع 33 مترا (11 طابقا).
هذا المُقترح سيقضي بصفة نهائية على الصبغة العمرانية و التراثية لمدينة صفاقس، حيث ستُحاذي هذه البناءات الجديدة السكن الفردي الحدائقي في المنطقة شبه المركزية والضواحي. كذلك الأمر بالنسبة للعمارات الشاهقة (12 طابقا وأكثر) التي يقترحُها مشروع التنقيح، في شط القراقنة ومدغشقر وبودريار1. هذه العمليات في مُجملها تهدف إلى تكثيف (densification) النسيج الحضري.
النقطة السابقة تُثير التساؤل التالي: هل أنّ مدينة صفاقس هي اليوم بحاجة إلى تكثيف نسيجها الحضري؟ لم يعتمد هذا المشروع على تشخيص دقيق و ضافي (Diagnostic)، كما تفرضُه منهجيّة التهيئة، يُنجزه عادة مكتب دراسات، يدرس الواقع في كلّ جوانبه، ويقوم بتقدير حاجيات المدينة من السكن و المكاتب والمساحات التجارية في أفق 10-20-30 سنة، يُفضي إلى تصوّر سيناريوهات وحلول، يقع الاتفاق التشاركي على أحدها.
وعلى العكس، تُشيرُ كلّ الدراسات الجامعية أنّ مدينة صفاقس هي اليوم مشلولة بسبب الفوضى العمرانية، كما أنّها ليست بحاجة لمساكن ومكاتب ومساحات تجارية إضافية في المنطقة المركزية وشبه المركزية حيث يوجد جزء هام منها في حالة شغور، كما أن نسبة التزايد السكاني في صفاقس الكبرى من أضعف النسب (0.25 بالمائة سنويا- المعدّل الوطني 1.2)، علما بأنّ البناء الفردي (autoconstruction) هو ظاهرة هامّة جدّا في صفاقس بالمقارنة مع بقية البلاد.
من البديهي أيضا أن نطرح التساؤل التالي: هل قامت البلدية بتقييم عمليات التكثيف السابقة؟ وللتذكير وقعت في سنة 2002 مراجعة جزئية لمثال تهيئة مدينة صفاقس، أقرّت بالتكثيف في شكل عمارات من 5 طوابق وأحيانا أكثر على طول الطرقات الشعاعية radiales).
يعلم كلّ سكان المدينة أن هذا التكثيف أدّى إلى الاختناق المروري وعدم قدرة الشبكات على القيام بدورها، وفي الوقت الذي تسير فيه الأمور يوميا نحو مزيد التعقيد، يطلعُ علينا المجلس البلدي بمشروع يهدف إلى مزيد التكثيف. ثمّ في المركز: هل قيّمنا عمليات التكثيف النقاطية : عمارة تبرورة، عمارة صفاقس سنتر، عمارة الإنطلاقة من الناحية “الجمالية” و الوظيفيّة؟ هذه الأمثلة تُبيّنُ أنّ التدخّل في المجال المبني لإعادته تهيئته هو من الصعوبة بمكان، وغالبا ما يؤدّي إلى نتائج سلبية غير منتظرة و يستحيل تداركها، إذا اقتصر الأمر على تعويض بناء بآخر أكبر حجما، دون نظرة شموليّة للمدينة.
التشخيص (الّذي لم يُنجز في هذا المشروع) يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أيضا للمشاريع المُهيكلة للمدينة (projets structurants) المُصادق عليها أو في طور الدراسة: المِثال التوجيهي للتعمير(Schéma Directeur d’Urbanisme.SDA) وهو وثيقة عمرانية أعلى رتبة من مثال التهيئة العمرانية ويحدد التوجهات الكبرى التي يتحتّم إتباعها في إعداد مثال التهيئة، وهو بصدد الإنجاز اليوم من قبل مكتب دراسات، كذلك مُخطط الجولان (Plan de circulation) ومشروع المترو ومشروع تبرورة…
لنتوقّف لحظة عند مشروع تبرورة. إنّ من أهم مبادئ التخطيط العمراني مبدأ “الحيطة (principe de précaution) أين هي الحيطة عندما يُدمجُ هذا المشروع المنطقة الصناعية بودريار 1 ضمن المناطق التي يمكن أن تُبنى فوقها بناءات ذات 12 طابقا وأكثر.
نشأت هذه المنطقة في بداية السبعينات من القرن الماضي على أراضي من الملك البلدي العمومي وقع التفويت فيها بأسعار رمزية لإقامة الصناعات، وهي مُحاذية تماما لمنطقة تبرورة. تغيير صبغتها اليوم سيكون بمثابة “رصاصة الرحمة” لمشروع تبرورة (للتّذكير، تبيّن الدراسات أن مشروع تبرورة وحده قادر على الاستجابة لحاجيات المدينة في التعمير لمدّة 50 سنة). لنتصوّر، لو مرّت هذه المُراجعة، أنّ هذا الشريط المحاذي للبحرعلى حوالي 2 كلم، (بودريار 1 اليوم) سيحتوي بعد 15-20 سنة على سلسلة متلاصقة من البناءات العمودية يفوق ارتفاعها 33 مترا. أين هي الحيطة إذن؟ تغيير صبغتها سيؤدّي إلى مضاربات عقارية (قد تكون انطلقت منذ إعداد مشروع التنقيح وهذا في حدّ ذاته يُثير تساؤلات…) وغلق مصانع وإحالة عمال على البطالة. أين هي الحيطة في جانبها الاجتماعي والاقتصادي؟ لقد أثّرت المضاربة العقارية سلبيّا على مشروع صفاقس الجديدة، كما أثّرت عليه سلبيا أيضا المُراجعات العديدة للمثال الجزئي الأصلي للمنطقة، و من المُحتّم أن تُؤثر سلبا أيضا على المركز والضواحي مع المشروع الحالي للتكثيف.
إذا سلّمنا بأنه لا توجد ضرورة مُلحّة لإنجاز وحدات سكنية ومكاتب ومحلات تجارية… لماذا هذا التسرّع لإنجاز “مُراجعة جزئية” لمثال التهيئة العمرانية لصفاقس؟ لماذا لا ننتظر المراجعة الكاملة من قبل مكتب دراسات، خاصة وأنّ طلب العروض أعلن عنه في جويلية 2020؟ لماذا لا ننتظرُ صدور المثال التوجيهي للتعمير (SDA)؟ لماذا لا نستنير بأفكار الجامعيين والباحثين (عشرات مذكرات الماجستير وأطروحات الدكتوراه حول مدينة صفاقس وقعت مناقشتها) لماذا لا تنظّم البلدية (بالتعاون مع الجامعة) ندوة دولية تستنير بالخبرات المحلية والأجنبية في مسالة التعمير بصفة عامة، وإشكالية التكثيف والمدينة المستدامة بصفة خاصة)؟
3- مداخل لتصوّر عمراني مُتكامل لمدينة صفاقس:
إنّ الانتماء لنفس الرقعة الجغرافية لبلديات صفاقس وساقية الزيت وساقية الداير وقرمدة والعين وطينة… يستوجب التنسيق Intercommunalité)) العمراني.
جزء هام من منطقة التدخّل العقاري (périmètre d’intervention foncière PIF) “الأنس” لا زال شاغرا يمكن توظيفه لإنجاز مدينة جديدة تستجيب لشروط الاستدامة التي منها أوّلية النقل الجماعي ونجاعته، الاقتصاد في الطاقة، مكانة هامة للمساحات الخضراء و الأحياء البيئية (écoquartiers)، وهي أيضا المدينة التي تُحسّن قدرتها باستمرار على التأقلم مع التغيرات المناخية (ville résiliente)، والمُحافظة على تراثها المعماري لمختلف الفترات التاريخية، والتي تُعطي للثقافة والرياضة مكانتهما. الاستدامة تعني أيضا حقوق الأجيال القادمة التي سترِثُ عنّا هذه المدينة، فإن لم نترُكها في أفضل حال، فقد اعتدينا على حقوقهم.
ختاما، أعتقد أنّ التهيئة الترابية بصفة عامة، والتهيئة الحضرية بصفة خاصة (حتّى لو تعلّق الأمر بمراجعة جزئية لمثال تهيئة)، ولئن احتوت على جانب تقني وآخر قانوني، هي أيضا “نظرة” للمدينة’ vision))، فلسفة للمدينة وطريقة اشتغالها (philosophie de la ville) هدفُها إِسعاد السكان، كلّ السكان، ليكون” للحقّ في المدينة” (le droit à la ville) معنى.
اعتبارا لما سبق، أعتبِرُ هذا المشروع الذي سيُعرض على المجلس البلدي، إن وقع اعتماده، هو “تدخّل عشوائي وعنيف” في المجال الحضري، هو كارثة عمرانية، بكلّ ما في معنى الكارثة من عمق وتأثير على المدى الطويل على كلّ الأصعدة: البيئة، النقل، جمالية المدينة، إطار العيش، وحتّى السلم الاجتماعية، سيستحيل محو آثارها. فلنتصدّى جميعا ( مجتمع مدني-أحزاب- منظمات وطنية…) للكارثة قبل حدوثها.
* أستاذ تعليم عال في الجغرافيا في اختصاص التهيئة الترابية.
شارك رأيك