أضاع التونسيون كثيرا من الوقت للتصدّي إلى هذا المخطط الذي حذّر منه رئيس الدولة القائد الأعلى للقوات المسلحة. قد يكون ذلك بسبب جهلهم لحقيقة الأمور أو بسبب الذّعر والترهيب أو نتيجة اليأس والإحباط بعد أن تمّ تجويع الشعب بطريقة ممنهجة لإلهائه عن التفرّغ لمتابعة ما يتعلّق بالشأن العام. ولتدارك الأمر لا بدّ أن تتكفل المنظمات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الصادقة بإنقاذ الموقف.
بقلم الأسعد بوعزي *
”إن من أخطر اللحظات التي تعيشها تونس هي هذه اللحظة وهناك للأسف من يسعى إلى تفجير الدولة من الدّاخل. الخطر لا يتهدّدنا من الخارج بقدر ما يتهددنا من الدّاخل: تفجير الدّولة بضرب مؤسساتها، كلّ مؤسساتها، وتغييب سلطتها بعدد من المناطق بعد ضربها وتفتيتها. ومن بين المخاطر اليوم هو محاولة الزّجّ بالمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية. هذه المؤسسة التي نأت بنفسها كما نأت أيضا المؤسسة الامنية بنفسها عن كلّ الصراعات السياسية. ومحاولة إستدراج المؤسسة العسكرية يهدف إلى الدّخول في مواجهة مع هذه المؤسسة فضلا عن المؤسسات الأخرى“.
على عكس ما يراه بعض الخبراء والسياسيين والمحلّلين والمتتبعين للشأن العام فإن السيّد رئيس الدولة القائد الاعلى للقوّات المسلّحة لم يكن يوما أكثر جرأة في خطابه وأبعد وضوحا في أفكاره وأشدّ إصرارا على دقّ ناقوس الخطر ممّا كان عليه في الكلمة التي توجّه بها الى المجلس الأعلى للجيوش رفقة القادة الامنيين في الاجتماع الذي انعقد في قصر قرطاج يوم الخميس 9 جويلية 2020 والذي خُصّص الى دراسة الوضع الأمني داخل البلاد.
هذه الكلمة التي جاءت في شكل الإيجاز العسكري وتميّزت بالدقّة والوضوح والدّلالة أتت لتلخّص التقارير الأمنية التي تقدّمها مختلف أجهزة الاستخبارات صبيحة كلّ يوم لرئيس الدولة وهي تقارير غالبا ما تكون في شكل جداول تبرز تاريخ الأحداث وشرح موجز للمخاطر والتهديدات وتقديم بعض المقترحات المبوّبة حسب نجاعتها وكلفتها والأضرار الجانبية التي قد تنجرّ عن تطبيقها.
وبنبرة حازمة تعكس مدى خطورة الوضع بالبلاد أكّد سيادة الرئيس على أهمّ تهديد يتربّص بالبلاد وهو تفجير الدّولة من الدّاخل (دون إستثناء التهديد الخاجي) قبل أن يبيّن طريقة تنفيذه التي لخّصها في ضرب كلّ مؤسسات الدّولة وتغييب سلطتها في عدد من المناطق بعد إستهدافها وتفتيتها وإستدراج المؤسّسة العسكرية للدّخول معها في مواجهة فضلا عن المؤسسات الاخرى.
ما حرص سيادة الرئيس على التكتّم عليه هو التعريف بالعدوّ وبكلّ من يتحالف معه والطريقة المفصّلة لتنفيذ مشروعه والخطّة المتّبعة من طرف الدولة للتصدّي لهذا المخطّط الجهنّمي وقد يعود هذا التكتّم إلى حساسيّة الوضع العام بالبلاد وإلى الضوابط التي تفرضها الإكراهات المتعلّقة بالتخطيط الإستراتيجي والعملياتي.
ضمن هذه الورقة وبعد وضع الموضوع في الإطار العام سوف أعرّف بالعدوّ وأشرح طريقة تفجير الدولة من الدّاخل ثمّ أقدّم بعض المقترحات التي من شأنها أن تردع العدوّ وتجهض مخططاته:
1) توصيف الوضع العام بالبلاد:
تأتي كلمة سيادة رئيس الجمهورية في ظلّ وضع متردّي تعيشه البلاد على جميع الأصعدة نتيجة تراكمات عشر سنوات من الفشل الذريع في كلّ الميادين حتى أصبحت الدولة على قاب قوسين أو أدنى من أن تُصنّف دولة فاشلة failed state.
ودون الدخول في التفاصيل فإن ما يمكن لخبير عسكري أن يستنتجه من الوضع القائم للبناء عليه في تقدير الموقف العسكري هو فشل ”الثورة“ في تحقيق الأهداف التي رفعتها شعارا لها والمتمثلة في التشغيل والحرية والعدالة والكرامة الوطنية حيث تبيّن ما يلي:
أ) ما يتعلّق بالوضع الداخلي:
-غياب الثقة والإنسجام السياسي بين الرّئاسات الثلاث نتيجة خلل دستوريّ في ما يتعلّق بتقاسم السلطة التنفيذية وجرّاء قانون انتخابي هجين كرّس تفتيت مؤسسات الدولة ما عطّل كلّ القرارات والقوانين التي تسيّر البلاد والتي لها علاقة مباشرة بحياة المواطن اليومية. هذا القانون تسبّب ايضا في التجاذبات السياسية بين الأحزاب الحاكمة ما أدّى إلى عدم الإستقرار في الحكومات المتعاقبة التي فشلت كلّها في إنجاز ما يمكن أن يبعث الأمل في المستقبل جرّاء المحاصصة الحزبية.
انعدام التنمية وإفلاس المؤسسات المنتجة ما تسبّب في تفشّي البطالة وساعد على انتشار الجريمة المنظمة علاوة على انزلاق الدينار وتغوّل الاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد المنظّم وتفاقم المديونية وارتفاع نسبة التضخّم وهي كلّها عوامل أضرّت بحسن سير المرفق العمومي وبالقدرة الشرائية للمواطن.
-استهداف القضاء ومحاولة اختراقه من طرف الأحزاب الحاكمة ومن بعض رجال الأعمال الفاسدين والتشكيك في نزاهته وحياده من طرف بعض الجهات المغرضة. وقد تسبّب هذا في تعطيل حسن سير القضاء بصفة أو بأخرى حتّى أصبح الإفلات من العقاب هو الرأي السّائد لدى عامّة الناس.
-تفاقم التهديدات ألأمنية مع عودة المئات من التكفيريين من بؤر التوتّر وظهور حالة من الانفلات الأمني بحكم تحرّر المواطن من الخوف بعد “الثورة” وضعف أداء الأجهزة الأمنية في التصدّي الى هذا الانفلات في غياب قانون يحميها وبسبب خوفها من المسائلة بدعوى انتهاك حقوق الإنسان.
-انفلات العمل النقابي في شتّى القطاعات والميادين بما يوحي بخروج بعض الجامعات والمكاتب الجهوية عن سلطة المكتب التنفيذي للمنظمة الشغّيلة الذي أصبح بدوره مستهدفا من طرف بعض القوى المعادية للدولة الوطنية.
-تفشّي المحسوبية والفساد وغياب الحوكمة الرشيدة طبق سياسة ممنهجة تخدم مصلحة بعض الأحزاب المتحالفة مع اللّوبيات والمافيات التي تعادي الدولة وتسعى الى ضرب مؤسساتها وشلّ إقتصادها.
استهداف الإدارة التي كانت تمثّل مكسبا من مكاسب الدولة بعد إغراقها بآلاف المتمتّعين بالعفو التشريعي العام ووضع البعض منهم في مناصب هامّة مع أنهم يفتقرون إلى الخبرة والكفاءة وهو ما أثقل كاهل المرافق العمومية وأثر سلبا على مردودها.
-تحدّي بعض البلديات (الحكم المحلّي) للسلطة المركزية بإيعاز من طرف أحزاب بعينها بما يدلّ عن مخطط يسعى إلى تفتيت الدولة عبر تأسيس بعض الإمارات داخالها لا تخضع الى قوانينها وسلطتها.
تغييب سلطة الدّولة في بعض المناطق الجنوبية بسبب عدم التزام الحكومة بتعهداتها فيما يتعلّق باتفاقية الكامور،
-التحريض على المؤسسة العسكرية التي كانت إلى حدّ وقت قريب تحظى بثقة كلّ الشعب والفرقاء السياسيين.
ما يمكن استخلاصه ممّا ورد ذكره هوّ أنّ الدولة أصبحت على غاية من الضّعف والوهن بعد استهداف كلّ مؤسساتها طيلة العشرية الرّاهنة. وأمام عجزها عن تحقيق التزاماتها إزاء شعبها وتلبية الحدّ الأدنى من حاجياته خاصّة بعد أزمة وباء “كورونا” فإن هذا الشعب فقد الثقة في حكّامه بعدما تملّكه اليأس وأصبح يعيش حالة من الشكّ والرّعب والتمرّد قد تجعله يقفز الى المجهول في ظلّ وضع تحكمه شبكات التواصل الإجتماعي وتوجّهه الإشاعة التي يبثّها عدوّ متمرّس على كلّ أنواع الحروب وعلى رأسها الحرب السّيبرنية.
ب) ما يتعلّق بالوضع الإقليمي:
لا شكّ من أن تونس تحتلّ موقعا إستراتيجيّا في حوض البحر الأبيض المتوسط. فهي تفتح على مضيق صقلّية الذي يمرّ عبره 80% من الاقتصاد العالمي وتقع على حدود ليبيا التي تعيش حربا أهلية والتي أصبحت تشكّل بالنسبة لكلّ القوى الإقليمية والعالمية العنصر الوازن في بناء السياسة الدولية والتخطيط الجغراسياسي والإستراتيجي.
وتونس تشكّل أيضا البوّابة الرئيسية لأوروبا نحو الساحل الإفريقي الذي يمثل عمقها الأمني والذي أصبح ملاذا آمنا لألوف الجهاديين العائدين من بؤر التوتّر والذين يسعون الى تأسيس الدولة الإسلامية في المغرب العربي إبتداءا من ليبيا أين تمّ تجميع حوالي 16 ألف مقاتلا من طرف بعض الدول الإقليمية الرّاعية للإرهاب.
وفي ظلّ ما تعيشه المنطقة من صراعات لم نشهد مثيلا لها منذ نهاية الحرب الباردة أواخر القرن الماضي، وعلى ضوء ما هو متوفر من المعلومات الاستخبارية المفتوحة فإن تهديد حدودنا الجنوبية الشرقية يبقى قائما وجدّيّا وأن تكرار هجوم بن قردان الذي دبّره أعداء تونس في مارس 2016 يمكن أن يتحقق وقد يتمّ تنفيذه هذه المرّة في منطقة جربه جرجيس أين تتوفر البنية التحتية من مطار وميناء بما يسمح ببناء رأس جسر للتمدّد شمالا نحو العاصمة بعد أن تكتمل العناصر اللاّزمة للهجوم.
وبالاستناد على ما تمّ استنتاجه من تحليل الوضع المحلّي والإقليمي فإنه يمكن القول أن كلّ العناصر أصبحت متوفٍّرة لتسقط تونس في دوّامة العنف. لا بدّ من الإقرار بأن ضلعين من مثلّث النّار أصبحا قائمين ولم تبق إلاّ الشرارة ليكتمل الضلع الثالث ومن المؤكد أن هذا التشخيص القاتم هو الذي دفع بسيادة رئيس الدولة بأن يصرّح ”إن من أخطر اللحظات التي تعيشها تونس هي هذه اللحظة“.
2) من هو العدوّ الذي يسعى الى تفجير البلاد من الداخل؟
من المؤكّد أن الإرهاب هو العدوّ الرئيسي الذي يهدّد بلادنا وهو الذي نحاربه في جبالنا ومدننا منذ سنة 2011 وهزمناه في معركة بنقردان سنة 2016 أين حاول تأسيس إمارة في جنوب البلاد بعدما فشل في تأسيس إمارة سجنان سنة 2012.
هذا العدوّ هو الذي جمّع الآلاف من أنصاره في مدينة القيروان سنة 2011 تحت شعار “إسمعوا منّا ولا تسمعوا عنّا” وهو الذي قام بغزوة شارع بورقيبة تحت شعار “دستور من الإسلام أو الموت الزّؤام”. وهو الذي قام بعدّة هجومات سنة 2012 كالهجوم على قناة نسمة ودار العبدلّية والسفارة الأمريكية في 2014. وهو الذي اغتال سياسيين بارزين من قيادات المعارضة سنة 2013 قبل ان يتمّ تصنيفه منظمة إرهابية من طرف حكومة “الترويكا” بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا الإطار، يخطئ كلّ من يعتقد أن أنصار الشريعة هي العدوّ الوحيد لتونس ذلك أن المتتبّع للشأن الأمني والسياسي في بلادنا لا يفوته أن يلاحظ أن الإرهاب لا يمكنه أن يعمل بمفرده دون التحالف مع التهريب ولوبيات الفساد وعصابات الجريمة المنظمة لكونهم يجتمعون حول هدف واحد يتمثّل في تفكيك الدولة علاوة على التنسيق في ما بينهم في كلّ ما يتعلّق باللّوجستيك وتأمين المسالك وتبادل المعلومات.
ومن الملاحظ أيضا أن الإرهاب نجح في استقطاب بعض الوجوه من التنظيمات التي تعادي الدولة الوطنية مثل رابطات حماية الثورة المنحلّة وأصبح يتمتع بحزام سياسيّ يدافع عنه ويسعى الى تبييضه داخل قبّة البرلمان.
3) كيف يمكن تفجير الدولة من الداخل؟
إن إستراتيجية العدوّ (إستراتيجية السلفية الجهادية) تقوم على نظرية تأسيس الخلافة من رحم الفوضى العارمة (نظرية التوحّش) وهو يمرّ حتما عبر تفكيك الدولة.
وفي هذا الإطار يقول المفكّر “دان براون” Dan Brown في كتابه “الملائكة والأبالسة” Anges et Démons أن “الإرهاب يسعى على نشر الرعب لأن الذعر يجعل الرّعية تفقد الثقة في راعيها. فهو يضعف العدوّ ( النظام القائم ) من الدّاخل ويصيب الشعب بالإحباط فيفقد معنوياته. وعليه، فإن الإرهاب يتجاوز العنف والإجرام ليصبح سلاحا من الأسلحة التي تُستعمل في السياسة. وفي كلّ هذا، يكفي الإرهاب أن يهشّم الواجهة التي يعرضها النظام إلى شعبه وينتزع منه هيبته ليفقد فيه الشعب ثقته”.
وطبقا لهذه الإستراتيجية فإن ما نلاحظه على الميدان يبرز أن العدوّ بدأ في تفجير الدولة من الدّاخل. وتعريف الدولة بالمفهوم القانوني هي رقعة من الأرض ذات حدود دولية معترف بها يعيش فوقها شعب يتمتّع بالاستقلال وله سلطة تحكمه وإدارة تدير شؤونه وقوانين تنظّم حياته ويحتكم إليها وجيش يدافع عن حدوده ويسهر على أمنه.
ولتفجير الدولة من الداخل لا بدّ من ضرب كلّ عنصر من مكوّنات هذه الدولة وفي الآن نفسه تفكيك هذه العناصر من بعضها البعض لتتفكّك الدولة بأكملها:
أ)إستهداف الشعب: إن استهداف الشعب يتمّ عبر ضرب الوحدة الوطنية. فالوحدة الصمّاء التي كنّا نتباهى بها قبل 2011 لم تعد قائمة لأن العدوّ نجح في تقسيمنا الى مسلمين وكفرة والى بورقيبيين ويوسفيين وهو يسعى جاهدا الى إحياء النعرات القبلية والجهوية.
وضرب الوحدة الشعبية يمرّ أيضا عبر تشكيك الشعب في انتمائه وفي رموزه وتاريخه. من ذلك أن طوابير المواطنين التي رفعت الراية اللّيبية واجتازت معبر وازن- الذهيبة الشهر الجاري ما كان لها أن تمرّ لولا إطفاء شعلة حسّ الانتماء إلى الوطن في صدورها. والتشكيك في الانتماء يشمل أيضا رفع راية الخلافة عوض العلم التونسي وعدم الاعتراف بوثيقة الاستقلال والتنكّر لزعامة بورقيبة باني الدولة الوطنية وإلى كلّ الرموز الوطنية من مثقفين ونقابيين.
ولبثّ الفتنة في صفوف الشعب كان لا بدّ من وضع سياسة إعلامية تقوم على بثّ الإشاعة على صفحات التواصل الاجتماعي المأجورة وترويج الفكر التكفيري عبر بعض الفضائيات المعادية لتونس والقريبة من تنظيم الإخوان المسلمين.
وضمن هذه السياسة الإعلامية كان لا بدّ من ضرب الإعلام الرسمي الوطني حيث تقدّمت كتلة برلمانية بعينها بمشروع قانون يرفع كلّ الشروط القانونية التي تنظم الإعلام السمعي والبصري من أجل السماح للإرهاب ببعث الإذاعات والقنوات التلفزية الخاصّة.
ب)إستهداف الحدود الجغرافية للدّولة: إن حدود الجمهورية التونسية أصبت مستهدفة من تلك الجهة التي تحمل الفكر التكفيري والتي لا تخفى على أحد. هذه الجهة التي لا تعترف بالحدود الدولية لأن تونس لا تمثّل في نظرها سوى إحدى إمارات دولة الخلافة أصبحت تسعى الى تقسيم البلاد الى إمارات داخلية حيث أصبحنا نسمع أصواتا تنادي بتقسيم البلاد الى شمال وجنوب وتسعى الى تمرير هذا المخطّط عبر إقناع أهالي الولايات الجنوبية أنّ لهم من الثروات الطبيعية ما يغنيهم عن العيش مع الولايات الشمالية ضمن دولة واحدة. ما يحدث هذه الأيّام من تغييب لسلطة الدولة في بعض المناطق الجنوبية يندرج ضمن هذا المخطط.
ت)استهداف الاستقلال: إن استقلال تونس أصبح مستهدفا منذ أن أصبحت بعض الجهات تشكّك في وثيقة الإستقلال وتعتبر أن تونس لا تزال مستعمرة فرنسية. وفي مقابل ذلك تسعى هذه الجهات الى ضرب السيادة الوطنية عبر ضرب الاقتصاد الوطني بتعطيل كلّ المؤسسات المنتجة وبعقد اتفاقيات اقتصادية مع دول بعينها وهي كلّها اتفاقيات تضرّ بالمصلحة الوطنية وبسيادة الدولة.
ث)استهداف نظام الدولة: من الواضح أن نظام الدولة تمّ استهدافه منذ أن تمّ سنّ دستور 2014 والقانون الانتخابي الهجين الذي يكرّس تفتيت مؤسسات الدّولة ويضر باستقرار البلاد ويجعل رأسي السلطة التنفيذية في تصادم مستمرّ. ويعتبر الباب السابع من الدستور الذي يتعلّق بالسلطة المحلّية من العناصر المضرّة بنظام البلاد حيث اصبحنا نرى بعض المجالس البلدية تتحدّى السلطة المركزية بتشجيع من بعض الجهات المتطرّفة. الصلاحيات الموكولة لهذه المجالس تمّت صياغتها بصفة اعتباطية ولا شكّ من أن الجهات المغرضة استفادت من بعض الثغرات لتوظيفها لمصلحتها.
إن إستهداف نظام الدولة وضرب مؤسساتها ما كان له ان يكون لولا ضرب القضاء وإختراقه وتدجينه. عديدة هي الأحكام التي لم يتمّ تنفيذها من بعض الأطراف المارقة عن القانون وعديدة هي التجاوزات التي أُقترفت في حقّ القضاء مثل ذلك التحدّي الذي رفعه أحد التكفيريين في وجه وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد الذي أصدر حكما في قضية مدرسة الرقاب القرآنية بوصفها وكرا لتكوين وتجنيد الإرهابيين لمصلحة داعش.
ج)استهداف الإدارة والمؤسسات العمومية: إن بقاء الدولة وعدم اندثارها بعد تفكّك أغلب مؤسساتها جرّاء أحداث جانفي 2011 يعود بالأساس إلى الإدارة التونسية وإلى المؤسسة العسكرية. ومن هنا كان لا بدّ من ضرب الإدارة في مرحلة أولى قبل استهداف المؤسسة العسكرية في مرحلة ثانية. تمّ ذلك عبر إغراقها بألوف المنتفعين بالسراح الشرطي وتسييرها من طرف اشخاص تمّ اختيارهم حسب ولائهم لجهة بعينها رغم افتقارهم للخبرة والمؤهلات التي يتطلبها المنصب.
المؤسسة التربوية التي كانت تعدّ مكسبا من مكاسب دولة الاستقلال هي أيضا تمّ استهدافها لمصلحة المدارس القرآنية الي شهدت تطوّرا منقطع النظير بفضل التمويل الخارجي الذي يمرّ عبر جمعيات مشبوهة تعمل لحساب جهات متطرّفة.
ح)استهداف قوانين البلاد: عندما يختلط الفكر التكفيري بالسياسة يصبح التعدّي على قوانين البلاد أمرا مستباحا. ما جدّ مؤخّرا في بلدية الكرم من تجاوز للقانون مثل بعث صندوق الزكاة (موضوع مشروع أسقطه البرلمان) واشتراط ثبوت الدّيانة الإسلامية لإتمام عقد القران وغيره من التجاوزات يعدّ إنتهاكا صارخا للدّستور وخاصّة الفصل السّادس منه المتعلّق بحرّية الضمير. يكفي أن ترى أحد رؤساء الكتل البرلمانية وهو يقوم بحملته الانتخابية في ولاية تطاوين تحت شعار “الخروج عن القانون” (لمّا خاطب الأهالي هناك بقوله “ما أحلاكم وأنتم لا تعترفون لا بالبوليس ولا بالبنك المركزي ولا بممثّل السلطة المركزية، أنا أحسّ براحة كبرى لمّا أكون بينكم”) لتفهم مدى التحريض على العصيان المدني.
خ)استهداف المؤسسة العسكرية: من المؤكّد أنه لا يختلف اثنان على أن المؤسسة العسكرية أثبتت بجدارة أنها مؤسسة جمهورية بقيت في منئى عن كلّ التجاذبات السياسية. هذه المؤسسة العتيدة التي تعدّ مكسبا وطنيّا والتي حظيت بثقة الشعب لتصبح ركيزة الانتقال الدّيمقراطي يتمّ استهدافها اليوم في ثكناتها بالزجاجات الحارقة من أجل جرّها إلى مواجهة ترغمها على ارتكاب المحظور من أجل توريطها وتأليب الرأي العام عليها والحطّ من شأنها. أحد نوّاب الشعب لم يتوان في التحريض على هذه المؤسسة بتعلّة أنها ليست فوق المسائلة وأنه “ليس على رأسها ريشة”
إنّ الهدف الرئيسي من مواجهة هذه المؤسسة هو إذلالها وتحقيرها وإرباكها وضرب معنوياتها وبثّ الشكوك بين صفوفها وإلهائها عن محاربة الإرهاب بما يساعد على فتح ثغرات عبر الحدود ليتدفّق الجهاديون بكلّ عتادهم وأسلحتهم داخل التراب الوطني لتنفيذ عمليات إرهابية يتمّ التخطيط لها من الخارج وبتنسيق مع العدوّ الدّاخلي على غرار ما تمّ بالنسبة لهجوم بنقردان الذي تمّ إجهاضه من طرف هذه المؤسسة العسكرية سنة 2016.
ممّا لا شكّ فيه هو أن الهجوم على المؤسسة العسكربة يمثّل المرحلة الأخيرة من مراحل تفجير الدولة قبل الإنقاضاض عليها ولا شكّ من أن بقاء الدّولة يبقى رهن بقاء هذه المؤسسة.
4) بعض المقرحات لتجنّب الكارثة:
لقد أضاع التونسيون كثيرا من الوقت للتصدّي إلى هذا المخطط الذي حذّر منه رئيس الدولة القائد الأعلى للقوات المسلحة. قد يكون ذلك بسبب جهلهم لحقيقة الأمور أو بسبب الذّعر والترهيب أو نتيجة اليأس والإحباط بعد أن تمّ تجويع الشعب بطريقة ممنهجة لإلهائه عن التفرّغ لمتابعة ما يتعلّق بالشأن العام.
ولتدارك الأمر لا بدّ أن تتكفل المنظمات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الصادقة بإنقاذ الموقف. و هنا لا بدّ لي أن أحيّي ما تقوم به كتلة الحزب الدستوري الحر داخل قبّة البرلمان وبما يقدّمه نوّابها من تضحيات لإنارة الرأي العام حول التهديدات والمخاطر التي تحدق بالدولة وبمؤسساتها.
وبدون التطرّق الى الإجراءات الأمنية الواجب اتخاذها لما لها من حساسية وجب استنفار كلّ القوى الحيّة بالبلاد لتفعيل منظومة الدفاع الشامل التي نادى بها بورقيبة منذ ستّينات القرن الماضي وتركيز الجهود على تحقيق الأهداف التّالية:
-تطهير المؤسسة القضائية من المندسّين ودعمها معنويّا ومادّيّا والوقوف بجانبها إذ لا يمكن عمل أيّ شيء ذا شأن بدون إرساء العدل وضمان إستقلاليته،
-محاربة الفاسدين وأباطرة التهريب ورؤساء العصابات الإجرامية المنظّمة لكسر التحالف مع الإرهاب من أجل محاصرته،
-تجفيف منابع الإرهاب وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ بضمان النفاذ إلى المعلومة،
-مراجعة هيكلة الإدارة وتطهيرها وإعادة النظر في ملفّات الذين تمّ توضيفهم في إطار العفو التشريعي العام،
-تجميد العمل بمجلّة الجماعات المحلّية إلى حين أن تتمّ مراجعة ما يجعلها في صدام مع الحكم المركزي،
-الضّغط على مؤسسة الرئاسة ومجلس نوّاب الشعب من أجل مراجعة الدستور وخاصة ما يتعلق بالسلطة التنفيذية وبالحكم المحلّي والعمل على ضمان التجريد الآلي لكلّ نائب من حصانته متى قدّرت النيابة العمومية ارتكابه لعمل يضرّ بالأمن القومي أو يتعارض مع قانون الإرهاب ومنع غسيل الأموال،
-التصدّي لكلّ مشروع يهدف الى تمكين الإرهابيين والتكفيريين والمتطرفين من الإذاعات والقنوات الفضائية،
-التعجيل بتمرير قانون حماية الأمنيين وسنّ قانونا آخر يتعلّق بضبط قواعد الإشتباك لتمكين القوّات الحاملة للسلاح من التصدّي للإرهاب والإجرام دون إرتباك أوخشية من التتبعات العدلية. مثل هذا القانون من شأنه أن يردع الكثير من المتطاولين عن سلطة الدّولة ويحدّ من عدد العمليات الإجرامية،
-المطالبة بالكشف عن تقارير لجان التحقيق وخاصّة ذلك الذي يتعلّق بتسفير الجهاديين الى بؤر التوتّر،
-مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية التي لا تخدم المصلحة الوطنية،
-الدّفع الى الإسراع ببعث مناطق حرّة على حدودنا الغربية والجنوبية الشرقية،
-مساندة الأجهزة الأمنية والعسكرية في حربها على الإرهاب وخاصّة بما يتوفّر من معلومات من شانها أن تساعد على كشف العدوّ والقضاء عليه،
-إغلاق الفضائيات والإذاعات الغير مرخّص لها في البثّ ومحاسبتها عن كلّ عمل من شأنه أن يؤلّب الرأي العام ويدعو الى الصّدام مع الدّولة.
ذلك ما فهمته من الكلمة التي توجّه بها سيادة رئيس الدّولة القائد الأعلى للقوات المسلّحة للقادة الأمنيين والعسكريين ومن خلالهم إلى كافّة الشعب التونسي. وتلك هي المقترحات العاجلة التي من شأنها أن تردع العدوّ وتحدّ من قدرته في كنف احترام القانون وحقوق الإنسان وحفظ الله تونس من شرّ الآثمين.
* ضابط سامي متقاعد من البحرية الوطنية.
شارك رأيك