يقول الزعيم البريطاني وانستون تشرشل : “إذا أردت أن تعرف أي شعب في العالم فٱنظر إلى برلمانه ومن يمثله فيه، وبعدها سوف تعرف أي الشعوب يستحق رميه بالورود وأيها يستحق رشقها بالأحذية !!!”. تذكرت هذه القولة البليغة والمعبرة وأنا أعاين، مشدوها ككل التونسيين، ما حدث اليوم الخميس 30 جويلية 2020 في ما يسمى “مجلس نواب الشعب” أثناء التصويت على لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس راشد الغنوشي !
بقلم مصطفى عطية *
لقد خان مائة نائب تقريبا ناخبيهم، الذين إئتمنوهم على تمثيلهم ورفع أصواتهم، خيانة موصوفة من جنس العار الذي لا بعده عار ! فمن متغيب عن تأدية واجبه إلى مدلس متعمد لورقة التصويت حتى تحسب في عداد الملغاة، في عملية غش وضيع لا يليق بالديمقراطية ومؤسستها التشريعية، من حق النائب أن يدلي بصوته بحجب الثقة عن رئيس المجاس أو بإبقائها أما أن أن يمارس سلوك المتحيلين فهذه هي خيانة الشعب التي لا تنزل إلى حضيضها أي خيانة أخرى.
كما يكون قانونكم الإنتخابي يكون برلمانكم
إن وصول مثل هؤلاء إلى مجلس نواب الشعب وغيرهم من المتحيلين وأصحاب السوابق والمهربين ومبيضي الإرهاب وداعمي جرائمه والجهلة يؤكد أن هذه الديمقراطية الناشئة تعاني من خلل جيني خطير يتمثل في القانون الإنتخابي الأعرج الذي وضعه على قياسهم زمرة من الجهلة والإنتهازيين وأصحاب الأجندات المعادية لنجاح التجربة الديمقراطية في بلادنا.
لهذه الأسباب وغيرها تعمل بعض القوى المؤثرة في الساحة إلى الدفع نحو إجراء إستفتاء على تغيير النظام الإنتخابي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد تدهور الأوضاع بشكل سريع في أغلب المجالات إن لم نقل كلها. وقد شهدت الأيام الأخيرة إتساعا ملحوظا في مساحة الجدال حول هذه المسألة وٱنخفضت نسبيا أصوات معارضيها بعد أن فقدوا الحجة وعجزوا عن إقناع المواطنين الذين إندرجوا بأغلبية مطلقة في سياق المطالبة بوضع آليات قانونية وإجرائية جديدة للخروج من المأزق.
نماذج من ديمقراطية مغشوشة
لم تكن الديمقراطية، يوما، النظام السياسي المثالي بل هي أقل الأنظمة سوءا لا غير، ولم يكن أمامنا خيار آخر غير إنتهاج هذا المسار بالرغم من غياب الظروف والمعطيات والشروط وأغلب مكونات البيئة التي تؤمن تواصله وإمتداده.
هي مغامرة بكل ما في المغامرة من مخاطر، لذلك لا يجب أن نبتئس كثيرا بما يحدث من تجاوزات وما يطفو من خروقات وما يستجد من مهازل وفضائح. فالديمقراطية التي جاءت إلينا ببعض الوجوه الفلكلورية المحملة بالسذاجة والجهل والحماقة والغباء والإنتهازية والتحيل، التي إرتكبت اليوم جريمة خيانة مؤتمن، هي الديمقراطية ذاتها التي رفعت الزعيم النازي أدولف هتلر إلى سدة الحكم في ألمانيا، وهي التي جاءت بأكبر مجرمي الحرب في التاريخ المعاصر أمثال بيڨين وشامير وشارون ونتنياهو في إسرائيل، وبوأت العنصريين في أوروبا الغربية مواقع هامة في المشهد السياسي والإئتلافات الحاكمة وحولت بعض البرلمانات إلى مايشبه السرك.
هذه الديمقراطية، هي أيضا، التي تم تنزيلها تنزيلا وفرضها بالطائرات المقاتلة في العراق فحولته إلى ساحة وغى تتناحر فيها الطوائف والأعراق.
الإنحدار إلى حضيض العار
مازلت أتذكر قولة بليغة ومعبرة للمفكر والسياسي الكبير الراحل الحبيب بو لعراس، رحمه الله، أجاب بها عن سؤال طرحته عليه في أحد لقاءاتنا المتعددة ويتعلق برأيه حول ما يحدث في الساحة، قال دون تردد “ما يحدث ليس ممارسات سياسية… إنها قلة حياء” !!! أجل لقد تعددت مظاهر الإنحدار إلى دهاليز الحضيض، والشعب يتابع كرنفال الوضاعة والرداءة والإستهتار وقلة الحياء بدهشة وٱستغراب وٱستياء.
بدا جليا وواضحا، اليوم بعد مهزلة التصويت على لائحة سحب الثقة من راشد الغنوشي وأكثر من أي وقت مضى، أن المشعوذين والفاسدين و أصحاب النزعات الإرهابية المفضوحة، الذين تسللوا إلى مجلس نواب الشعب وأوهموا الناخبين بحرصهم على تأصيل قيم “العفة” و”النظافة” و”الوطنية”، هم أبعد ما يكون عن امتلاك مثل هذه الصفات، وقد أبدوا من الإنحدار اللغوي والوضاعة السلوكية والإفلاس المعرفي ما أفقدهم ما تبقى لديهم من مصداقية لدى الرأي العام.
كنا نعتقد، وهما، أن الأمر لا يتجاوز حفنة من قليلي الأدب وعديمي الحياء، ولكننا إكتشفنا اليوم أن عددهم يفوق ثلث أعضاء هذا المجلس الهجين، فهم يمثلون “مجموعة ضغط عشوائي” في هذه الطبقة السياسية التي جاءت بها رياح الرداءة.
يحدث كل هذا في ظل أكثر من تسع سنوات من الفوضى والإنفلات والتذبذب والإرتباك والتحيل وانهيار هيبة الدولة ومؤسساتها دون أن تظهر في الأفق مؤشرات جدية لقرب إنتهاء هذا الكرنفال التراجيدي-كوميدي، المشحون بكل أنواع الوضاعة و “السقوطية ” حسب التعبير الشعبي الرائج، والذي حول العمل السياسي والبرلماني إلى ضرب من ضروب الدعارة !
على أحرار الوطن الذين يناضلون يوميا من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم أن يكثفوا من تحركاتهم قصد التصدي لهؤلاء المشعوذين والمتهافتين والمتحيلين الذين خانوا الأمانة واستهتروا بالمسؤولية المناطة بعهدتهم.
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك