إن الأزمة التي تعيشها جزيرة جربة اليوم بسبب تراجع الحركية السياحية التي بنت عليها اقتصادها خلال الأربعين هاما الماضية تدفع سكانها إلى إعادة النظر في عديد الخيارات الاستراتيجية ومنها ما يخص العلاقة بالأرض و ضرورة تطوير الزراعة من أجل توفير الاكتفاء الغذائي الذاتي.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
كانت جربة ولا تزال واحة من النخيل ومساحات شاسعة للزراعة والفلاحة، تحتاج إلى من يُحيي هذه المهنة التي دأب عليها الأجداد الذين عاشوا منها أيام الحصار والاستعمار منذ قديم الزمان.
وقد عُرف عن أهلنا في جربة عبر التاريخ أنهم يقتاتون من الأرض التي بقدر ما يمنحونها الرعاية والاهتمام تمنحهم العطاء اللامحدود، يتوكلون على الله تعالى، ويبذلون الجهد الكافي ولا يعرفون ضغط الدم ولا السكري إلا قليلا، ولا الأمراض الخبيثة التي انتشرت اليوم بسرعة رهيبة تدعو للحيرة والقلق والخوف الشديد، نتيجة تساهل الناس جميعا في الاحتياط اللازم والبحث عن الطعام الجيد الذي يغذي الجسم لا الذي ينهكه.
العولمة السريعة تبعد سكان الجزيرة عن الأرض
ولقد عايشنا آخر الفترات التي مازالت جربة تنعم بخيرات الفلاحة وعطاء الأرض، كنا ونحن صغارا نشاهد ما يسمى جرار الزيت والتمر ومحصول الشعير والقمح والعدس، هذه المحاصيل التي لا يخلو منها بيت من بيوت جربة، فلكل بيت أراض تختلف مساحاتها وأحوازها، ولكل بيت رجاله ونساؤه وأطفاله وشبابه الذين يهتمون بها حرثا وبذرا ويجنون الثمار ما طاب منها ولذّ.
لكن بمرور الوقت وبدخول العولمة العالم العربي، وامتدادها إلى الريف، وتحوّل الحياة من حياة بسيطة إلى حياة معقدة، ومن حياة بطيئة إلى حياة سريعة جدا، ومن صحة إلى مرض، ومن بركة إلى عدم القناعة، ومن ارتباط وطيد بالأرض إلى هجران كامل وشامل بل سرعة في البيع والتخلص منها بأي ثمن، والأدهى من ذلك بيعها للأجانب، فأصبح هؤلاء يمتلكون عقاراتنا وينافسوننا في بلادنا، ومن أثمانها هاجر أغلب الشباب إلى أوروبا وإلى سائر البلدان، واستنكفت النساء أن يعملن في الحقول والأراضي إلا قليلا، وارتبط الشباب بالعصرنة والهواتف النقالة، وآثروا البطالة على العمل والتوكل على الله، وآثروا العمل في الفنادق ، يعملون من أجل راحة السياح، لأنهم يملكون المال الوفير، فاختلط الحلال بالحرام، ونسوا وابتعدوا عن مهنة الآباء والأجداد، ولو أنهم استثمروا في هذا المجال لرأوا الخيرات العظيمة بين أيديهم، والله تعالى في كثير من آياته يذكر الأراضي وما يتنعم به الإنسان من ثمراتها بكل أنواعها من ذلك قوله تعالى: “الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى”.
كان الجربي لا يلجأ للشراء إلا قليلا، لأن كل شيء ينتجه في بيته
أذكر في صغري كيف كنا ننعم بخيرات الأرض من أنعام بأنواعها وزيتون وتمور بأنواعها، وشعير وقمح وعدس وتين، ورمان، وعنب وغيرها من الثمار، كنا نجنيها في وقتها، ونخزّن الزيت في أجرار، والبلح في أجرار أيضا بعد تركه ينضج حتى يصبح تمرا ثم يتم طحنه ويخزن لفترات على طول العام، وهكذا القمح والشعير والعدس وبقية أصناف الغلال، فكان الجربي لا يلجأ للشراء إلا قليلا، لأن كل شيء ينتجه في بيته، فلدينا في جربة أيضا أراض خصبة وماء عذب، وبركة ننالها في كل موسم، والكل فرح بما عنده وبما رزقه الله من الطيبات، وفجأة تغيّر كل شيء بعد أن غيّرت المدنية الحديثة حياتنا، تطورنا في كل شيء، حتى في علاقاتنا ببعضنا البعض، فأصبحت المدنية هي المسيطرة، والمادة هي المغيّرة، والتباهي هو الرائج، والبحث عن المشاكل هو السائد، والهجرة هي الهدف، والسباق نحو المال هو المبتغى، فتكلست النفوس وطغت، وابتعدت وافترقت، فبعنا أراضينا للأجانب، وانفصلنا عن آبائنا وأمهاتنا وبنينا القصور، وقمنا بصنع الحواجز بين البيوت، وساد التكبر وضيق النفس والخوف من المستقبل، وعدم التحمّل، حتى قطّعتنا المدنية والعولمة، وزاد تكالب الدول علينا في هذه المحنة حتى صرنا في وضع لا يحسد عليه.
وكما ترون حادثة تجلب حادثة، تذكرون حادثة تربلة وقتل الكلاب، وما تبعها من دعوات لعدم زيارة جزيرة جربة وقطع السياحة عنها، فجربة العزيزة تعيش حتى بدون سياح، وفي أوقات الأزمات، فهل إذا لم يأت السياح إلى الجزيرة سنجوع ونعرى؟ كلا إنها كلمة هم قائلوها، فإذا تماسك الشباب وعقدوا العزم على الرجوع إلى الميدان، وخدموا الأرض بدل الإنسان السائح الأجنبي الذي يمنّ عليه، لكان ذلك عزا وفخرا له، فالأرض تمنحه الخيرات دون منّة ولا أذى، والأرض تعطيه كل الثمرات، والأرض تغنيه عن السؤال، والأرض تعزّه عن الأرذال، وتحيي في نفسه سيرة الرجال والآباء والأجداد، والأرض تقدم له القناعة والرضا بما قسم الله، والأرض تصنع منه رجلا يملك عناصر القوة والفتوة والمال، ففيها يزرع ومنها يحصد ومنها يأكل، ومنها يخزن، ومنها يبيع، ومنها يكسب، ومنها يعيش بعزة وكرامة بعيدا عن أي مهانة.
يمكن لجربة أن تصبح مكانا خصبا للزراعة تكفي سكانها مؤونة طلب غذائهم من خارج الجزيرة
أليس كل ذلك خير من أن يعمد شبابنا إلى الهجرة قسرا وعبر بحر تتلاطم أمواجه، وقد يغرق في ظلمات ثلاث، وقد يصل إلى بر الافرنج فيطردونه، وقد يعمل هناك وهو مهان، وقد يتعرض لضغوطات، وقد يبقى بلا عمل طول الزمان، وقد يعمل في أعمال وضيعة، وقد لا تسد وظيفته رمقه ورمق عياله، إضافة إلى الغربة والبعد عن الوطن، والبعد عن الهواء النقي، وراحة البال.
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يخرج من بلده، من أجل تحسين حاله ووضعه، أو من أجل عمله الذي قد لا يتوفر في المنطقة التي هو فيها، فأنا أحكي عن الشباب الذين خرجوا من التعليم مبكرا ولم يجدوا ما يصنعونه، أو الشباب الذين تخرجوا ولم يعملوا، أو الرجال الذين تقاعدوا ويحبون أن ينشطوا، أو النساء اللواتي لديهن القدرة على العمل، فهذه الفئات كثيرة العدد في جربة وتمثل شريحة كبيرة في المجتمع لو عملت على الزراعة اليوم بطرق ذكية وبآلات عصرية تختصر الزمن وتقدم تسهيلات للبشر، فسيبدعون، وسيقدمون للمجتمع خدمة جليلة، وتصبح جربة مكانا خصبا للزراعة تكفينا مؤونة طلبها من خارج الجزيرة، بل ربما تصدر الكثير مما تزرعه وتصنعه، فحري بنا جميعا أن نراجع أنفسنا وأن نعيد النظر في استراتيجيتنا الغذائية حتى نعيش بطمأنينة وسلام.
صحفي و محلل.
شارك رأيك