تلوح علاقة متينة بين العمل الإبداعي للشّاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م) في “الكوميديا الإلهية” والتراث الإسلامي لا تخفى عن عين الدارس الموضوعي، ولا سيما في التشرّب لفلسفة التصوّر الإسلامي من حيث بناء الكوسمولوجيا الدانتية.
بقلم عزالدين عناية *
لا شكّ أنّ ثمّة هاجسًا في الفلسفة الغربية بمحاولة “التّناسي” للبُعد الإسلامي من الجذور التكوينية للفكر الغربي الحديث، كما يسمّيه المفكر الإيطالي المعاصر ماسيمو كامبانيني. وهو نكرانٌ لطالما مُورس وحاولت العديد من الأطراف الدينية والسياسية ترسيخه، منذ انطلاق الحملات الصليبية وتأثيرها القوي في انبناء جدار نفسي بين الحضارتين. عمل العديد من الكتّاب على تعميق هوّة الفصل بين كلّ ما يمتّ للحضارة العربية الإسلامية بما له صلة بالحضارة الغربية.
ويبرز التمايز جليّا بين الشرق والغرب مع ذلك الموقف الجائر لِفرانشيسكو بيتراركا في قولته الشهيرة: “أمقت ذلك النّسب إلى العرب” في “الرسالة الثانية إلى دوندي” التي ظهرت خلال القرن السادس عشر في كِتاب الرسائل “سينيلي”، وهو محاولةٌ للتملّص من الروابط التاريخية بين الحضارتين، أكان ذلك مع التجربة الأندلسية أو مع التجربة الصقلّية.
ظهر دانتي أليغييري في مناخ محكوم بالتمايز بين الحضارتين الإسلامية والغربية
في ذلك المناخ المحكوم بالتمايز بين الحضارتين ظهر دانتي أليغييري، مع أنّه تربّى في وسط ثقافي يعبق بالحضور الفلسفي والعلمي للحضارة الإسلامية، والذي لم يقرّ به بشكل صريح دائما. فهو كما نعرف قد أصدر حكما قاسيا في مؤلّف “الكوميديا الإلهية” ضدّ الإسلام. فليس خفيّا أن تعلو في مدينة الآثام الموصوفة في نصّه ما يطلق عليه “المسكيتي” بلغة ذلك العصر، أي “الجوامع” (الجحيم: الثامن، 70-72). يتقاسم دانتي مع مجايِليه الرأيَ الشائعَ أنّ الإسلام لا يزيد عن كونه هرطقة مسيحية، ولذلك اِتّخذ موقفا جاحدا من المصطفى (عليه الصلاة والسلام) ومن الإمام علي (كرّم الله وجهه) على وجه التحديد، وهي الفقرات التي تحاشاها المترجم العربي وتغافل عن إيرادها، مع أنّها نصوص تكشف عن موقف الرجل الصريح من حضارة بأسرها والواردة في (الجحيم/ الثامن والعشرون، 30-33).
تبدو المسألة التي حكمت الموقف الغربي من دين الإسلام كآخر ومغاير حاسمة، فهو ممّا ينبغي مواجهته إلى حدّ السعي لاجتثاثه، وهو ما ساد على مدى القرون الوسطى ومطلع العصر الحديث. تجلّى ذلك بقوّة في الحملات الصليبية المتلاحقة، وفي محاولات الغرب المسيحي نسج علاقات مع القوى الآسياوية، مثل المغول لحشدِ القوى ضدّ العدو المشترك المفتَرض ألا وهو حضارة الإسلام، ذلك ما يوضّحه بشكل جليّ وموثق الكاتب والمفكر ماسيمو كامبانيني منذ مطلع كتابه (ص: 8-9). تعمّق العداء للحضارة الإسلامية أثناء الحملات الصليبية، وبدا جليّا في التبريرات الدينية للقتل التي حاول القدّيس برنارد من كليرفو (Bernardo di Clairvaux) الداعي إلى الحملة الصليبية الثانية ترويجها، حين يكون ذلك الفعل باسم المسيح: “لا مندوحة في أنّ جندَ المسيح حين يخوضون حروبَ الربّ يخوضونها مرتاحي البال، لا يخشون في ذلك اقتراف الخطيئة حين يقتلون أعداءهم أو يزهقون أرواحهم. فليس القتل في سبيل المسيح جرما أو جنحة بل مدعاة للمجد. وبالفعل في كلتا الحالتين إمّا يفوز المرء برضى المسيح الذي يقبل طوعًا بموت العدوّ، أو بالمسيح الذي بذل حياته عزاء للمقاتل. أشدِّدُ على أنّ مقاتِل المسيح يقتل مرتاح البال وإن قضى نحبه فبراحة أكبر” ليست تلك الفتوى الدينية الوحيدة، فقد تعدّدت المواقف الشبيهة على مدى قرون حتى خلَقت نوعا من المشاحَنة المزمنة والمتجذّرة.
تواصل فكري بين الحضارتين الإسلامية والغربية رغم التوتّر الديني
بعد توضيحه لتلك الأجواء التي تحكّمت بالمخيال الغربي تجاه حضارة الإسلام، يحاول ماسيمو كامبانيني من جانب آخر إبراز نوعية التواصل الفكري الحاصل بين الحضارتين رغم التوتّر الديني المخيّم على الجانبين. تحت عنوان “الترجمات والمترجمون… انتقال المعارف” يسلّط الضوء على حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وهي حلقة محورية في توارث المعرفة الكونية. فقد كان العرب في الفترة الوسيطة القائمين على حفظ الذاكرة الإنسانية، سواء عبْر ما أنتجوه من معارف أو عبْر ما نقلوه من إنتاجات الإغريق.
لقد كانت العصور الوسطى، المغرَقة في الانغلاق في الغرب، هي عصور التطوّر والانفتاح المعرفيين بالنسبة إلى العرب، ما جعل الحواضر العلمية الإسلامية قِبلة لطلاّب العلم من شتّى الأقوام والأديان. جربرت دي أوريللاك، الذي غدا بابا الكنيسة الكاثوليكية خلال الفترة (999-1003م) واتّخذ اسم سلفستر الثاني، تردّد قبل اعتلاء سدّة بطرس على مجالس العلماء في الأندلس، وتلقّى المعارف على يد علماء وفلاسفة مسلمين.
ما كان المسلمون في ذلك العهد يضيقون ذرعا بأتباع الديانات الأخرى إن ارتادوا حلقات العلم، بل محلّ ترحيب. فقد كان العرب يفخرون بالتسامح الذي يغمرون به أهل الكتاب وغيرهم. كان الكاتب بيار ريشيه قد ألّف كتابا مهمّا حول البابا المذكور بعنوان “جربرت دي أوريللاك.. بابا العام الألف” نُشر في دار فايار في باريس (1987)، توقّف فيه عند رحلة البابا لتلقّي المعارف في الأندلس بالتفصيل.
في تقييمه لحركة الترجمة الغربية إبّان الفترة الوسيطة يقول كامبانيني: “كانت معرفة الإسلام كدين وكثقافة، وبعيدا عن الأحكام المسبَقة، تفتقر إلى العمق، كما كانت محصورة بنخبة قليلة.” يذكر حادثةً معبّرة في الشأن حول مدى الإلمام بالعربية في الأوساط العلمية الغربية قائلا: إلى حدود منتصف القرن الثاني عشر الميلادي كان ملك فرنسا لويس التاسع، الذي قاد الحملة الصليبية السابعة وهلك في تونس، ثم رفعته الكنيسة لاحقا إلى مقام القدّيس، وكذلك البابا كليمنت الرابع، يجدان صعوبة في العثور على مترجم قدير بوسعه القراءة والترجمة من العربية والفارسية. فما كانت الدراسة للموروث العربي بشكل عام بدافع الشغف المعرفي دائما. حين ترجم روبرت دي كيتون القرآن بإيعاز من الراهب بطرس المبجّل (توفّي سنة 1156م)، ما كان الهدف معرفة مضامين القرآن الكريم بل دحض “هرطقات السّراسِنة” على حدّ زعمه. فقد كان الموقف من دين الإسلام بالغ التشدّد والتعصّب في الأوساط الواقعة تحت سلطان الكنيسة، مع ذلك لم تخلُ الساحة من عناصر جريئة حاولت تخطّي تلك الأحكام المغالية والإقرار بعبقرية حضارة الإسلام، مع احتفاظهم بموقف عدائي تجاه الدين، لا سيما في الأوساط السياسية في صقلية فترة روجر الأول، كونت صقلية، إبان حكم النورمان؛ وكذلك مع الإمبراطور فريدريك الثاني. نذكر أن الجغرافي الإدريسي قد شغل سنوات في بلاط روجر الثاني مستشارا.
ولا شكّ أنّ دانتي أليغييري كان على دراية بالحركة الثقافية إبّان حكم الإمبراطور فريدريك الثاني، حتى وإن لم تطأ قدماه أرض صقلية. فقد حاز فريدريك الثاني تقديرا في كتاب “المأدبة” لدانتي، لكنّ ذلك التقدير شهد تراجعا في “الكوميديا الإلهية”، حيث حُشِر فريدريك الثاني في الجحيم مع الهراطقة.
لا يستطيع دانتي أن يكون له موقف إيجابي من الإسلام كدين
وفي تقييمه لشخص دانتي بشأن موقفه من الإسلام كدين يقول كامبانيني: كرجل ينتمي إلى عصره، لا يستطيع دانتي أن يكون له موقف إيجابي من الإسلام كدين، وعلى غرار ذلك من اليهودية. فقد ظهر دانتي في عصر خيّم فيه عداء الكنيسة. وأمّا علاقة دانتي بالفلسفة الإسلامية، وبالثقافة العربية بوجه عام، فهي مدعاة إلى طرح عديد الأسئلة. إذ لا ينفي كامبانيني أنّ دانتي كان على دراية مهمّة بالفلسفة الإسلامية، وبالعلوم الإسلامية الصحيحة، كما يتجلّى ذلك من خلال مؤلّفاته الثلاثة الأساسية: “المأدبة” و”الكوميديا الإلهية” و”المملكة”. تأتّت له تلك الحصيلة المعرفية بفعل التردّد على الأوساط الجامعية في مدينتيْ بولونيا وفلورنسا، ويُرجَّح كذلك أثناء رحلته إلى باريس. لكنّ التعمّق البارز لدانتي في الفلسفة الإسلامية جاء بالأساس جرّاء الاطّلاع على ابن سينا والفارابي وابن رشد وعلى جملة من علماء الفلك المسلمين. يذهب ماسيمو كامبانيني إلى أنّ الإلمام بالقرآن الكريم وبالعلوم الدينية الإسلامية، مثل الفقه والسيرة وعلوم القرآن، كان محدودا مع دانتي، وهو ما خلّف خلطًا في ذهنه ورسّخ أحكاما مسبَقة. تلك الحصيلة الهزيلة من ناحية دينية هي نتاج نفور عام ميّزَ الكتّاب المسيحيين في العصر الوسيط، وإن انبهروا بالمعارف العلمية المتأتّية من الحضارة الإسلامية سيما في مجالات الطبّ والفلك والحساب والكيمياء، خصوصا مع ابن سينا والزركلي والخوارزمي وجابر. فهناك حكمٌ رائج في الأوساط الدينية، كما يخلص كامبانيني، أنّ دين الإسلام زائف، وبالتالي غير جدير بالدراسة.
ولعلّ المسألة أعمق من ذلك، فقد كانت الرقابة الكَنَسية على مراكز التدريس في الغرب لا تبيح عرض العلوم الإسلامية أو التعرّف عليها. كان كلّ من تحدّثه نفسه بتناول تلك المعارف الدينية عرضةً لتهمة الهرطقة، من هنا كان الاقتصار في الجامعات الأوروبية على تدريس العلوم الإسلامية الصحيحة واستبعاد كلّ ما يمتّ بصلة للإسلام كدين.
حفاوةً معتبَرة نالها ابن رشد في “الكوميديا الإلهية”
ومن البيّن أنّ الشذرات الواردة في “الكوميديا الإلهية” المتعلّقة بالدين الإسلامي، والتي تقف موقفا سلبيّا من رجالات الإسلام المبكّر دون تبرير مقنع في ذلك، هي نتاج اعتبار الإسلام دينا منشقّا عن المسيحية، وهو ما يكشف عن عمق الرقابة الإيديولوجية الشائعة في الأوساط المسيحية. بخلاف ذلك نال ابن رشد في “الكوميديا الإلهية” حفاوةً معتبَرة ضمنت له موضعا في “البرزخ” بين عظماء البشرية. انبنى ذلك لدى دانتي على تمييز بين ما هو ديني بحت وما هو علمي وعقلي حسب نظرته.
لا نوافق ماسيمو كامبانيني في رأيه أنّ اطّلاع دانتي على القرآن الكريم كان محدودا، أو شبه منعدم، والبناء الكوسمولوجي للكوميديا الإلهية يُفصِح عن أنّ دانتي كان على دراية بيّنة بقصة الإسراء والمعراج، أكان كما وردت في النصّ القرآني أو كما رُوِيت في الأحاديث النبوية وفي المدوّنات التاريخية. فقد شهدت الفترة رواج ترجمة “كتاب المعراج” للقشيري في الغرب المسيحي بترجمة لاتينية (يُنسَب إلى ألفونس العاشر ملك قشتالة أمره بترجمة الكتاب سنة 1264م)، وأَثَر “كتاب المعراج” في كوميديا دانتي مما لا يمكن نكرانه، فهناك شبهٌ بيّن على مستوى الشكل والصياغة. إذ لا ينبغي أن نغفل عن الضغوطات الكَنَسية الهائلة عبر الرقابة والتفتيش مع أيّ كاتب عمومي في ذلك العصر.
وكان دانتي حذرا عند إيراد ما يمتّ للدين الإسلامي بصلة. في هذا الصدد، يمكن الاطّلاع على البحث القيّم حول عمق ترصّد الكنيسة لكلّ من تحدّثه نفسه بنشر فكر مغاير يخالف وجهة نظرها في الكتاب الصادر عن “مشروع كلمة” بالإمارات العربية بعنوان “الكتب الممنوعة” وهو من تأليف المؤرّخ الإيطالي ماريو إنفليزي.
السؤال الذي يُلخّص مضامين كتاب كامبانيني وهو ما معنى إسقاط المصدر التاريخي الذي استقى منه دانتي نص الكوميديا، أو لنقل البناء الكوسمولوجي للكوميديا بشكل أدقّ؟ ثمة نزوع في القراءة الإيطالية لإضفاء طابع الفرادة على نصّ دانتي، سيما وقد غدا الرجل العمدة والأساس الذي انبنت عليه الهوية اللّغوية الإيطالية. تفكيك الأسطورة الدانتية هو مسٌّ وانتهاك لتلك القداسة بحسب الموقف المحافظ. وقلّة من الكتّاب الإيطاليين ممّن تجرأوا، مثل ماسيمو كامبانيني، على إعادة اكتشاف دانتي، أي من حيث الإحاطة بمصادره وروافده في بناء نصّه. نشير أنّ مقاربة كامبانيني لدانتي لا تعني مسًّا من قيمة الرجل أو حطّا من إبداعه، بل بخلاف ذلك ثمّة إجلالٌ وتقديرٌ، وإنّما الشيء الذي أراد أن يصل إليه الرجل وهو ما يتلخّص في التساؤل التالي: ماذا سيتبقّى من دانتي بعد نزع الأسْطَرَة عنه؟ وذلك بعد كشف الأبعاد المستوحاة من فلسفة الفارابي وآراء ابن سينا وابن رشد بالخصوص. ففي نكران الأبعاد العميقة والجوهرية لنصّ دانتي، وهو ما يعني “التغافل” عن المخزون الفلسفي القوي الحاضر في نصّه، هو نزوع لفصل الارتباط الوثيق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية سيما إبّان فترة الانتقال من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة.
هناك نقطة مهمّة يحوصل بها المؤلّف كتابه، وهي نابعة من إلمام كامبانيني المهمّ بالفلسفة الإسلامية جعلته يتنبّه إلى مصادر دانتي وإلى المسكوت عنه في مؤلفاته. في حديثه عن الروح العَقَدية الثالوثية لدى دانتي يقول: ليس الأمر مبنيّا على إثباتات “منطقية”، كما حاول أن يفعل ذلك القديس توما الأكويني، بل يقوم على أساس إيمانيّ أو على أساس الحقيقة المملاة من قِبل الكنيسة، وهو ما يتجلّى في نصّ الكوميديا في الكانتو الرابع والعشرين بخصوص الجنة. من جانب آخر يقول كامبانيني: جرى الاهتمام بالعلاقة الرابطة بين “الكوميديا الإلهية” والتراث الإسلامي، والواقع أنّ مختلف مؤلّفات دانتي، مثل “المملكة” و”المأدبة”، ترشح بهذا التأثّر الواضح.
* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا.
“دانتي والإسلام… سماوات الأنوار” – تأليف ماسيمو كامبانيني – باللغة الإيطالية – منشورات ستوديوم (روما) – 2020 – 176 ص.
شارك رأيك