القصاص من المجرمين… هذا ما وعد به رئيس الدّولة قيس سعيد السيّدة مباركة -أرْمَلة الشّهيد محمّد البراهمي-، ولا نخاله إلاّ على الوعْد باق، ولالتزاماته موفّ… فالرّجل لم نعدّ له أدنى سقطة أخلاقيّة من ذي قبل، وهو ضمن زمْرة الثّقاة… فلا تخْشى –سيّدي الرّئيس- في الحقّ لومة لائم… وامْض قُدمًا في إرْجاع الحقّ لأصحابه… رافقتْك العناية وسدّدَت خُطاك!
بقلم: أسعد جمعة *
الآن، وقد أُسْدِل السِّتار على الفصْل الأخير من المسْرَحيّة – المهْزَلَة (رديئة النصّ وسيّئة الإخراج)، أعني سقوط لائحة سحْب الثّقة من رئيس مجلس نوّاب الشّعْب، لم تتبقّ لنا سوى مرارة السّؤال المُعلّق دون إجابة مفْنعة: ماذا نحن فاعلون في حضْرة طبقة سياسيّة تضعنا أمام خياريْن أحْلاهما مُرٌّ. فإمّا أن نحْمل إدارة ملفّ سحْب الثّقة المُشَار إليه من قبَل نوّاب شعبنا على حسْن النيّة، وأنّى لنا في هذه الحالة أن نسْتأمن زمرة جهلة غير قادرين على رسْم قاطع ومقطوع في الخانة المناسبة (للتذكير فقط: 81 نائبا من أصل 217 متحصّلين على شهادة الباكالوريا)؟ وإمّا أن نقرّ بسوء نيّة نوّابنا الميامين (أخبار متواترة تؤكّد اقتراح أموال طائلة -200 ألف دينارًا- على أكثر من نائب لقاء عدم التّصويت لفائدة مشروع سحْب الثّقة)، وفي هذه الحالة كيف يمكننا تسليم زمام أمرنا لمرتشين شُّوهت ذمّتهم على هذا النّحْو الشّنيع؟
واقع موازين القوى في مجلس نوّاب الشّعب مفروض من طرف الإسلاميين
وفي غياب إجابة حاسمة عمّا أثارته مثل هذه التّساؤلات من جدل عقيم، آثر العديد من متابعي الشّأن السّياسيّ الحديث عن مسْتقبل مُحْتَمَل – في المستأنف من الأيّام – لمُبادَرَة الحزب الحرّ الدّستوري (فهذه الجهة هي أصلاً صاحبة مشروع سحْب الثّقة، ولئن أبت بعض الأطراف السّياسيّة التّسليم بهذه الحقيقة التّاريخيّة). ولكنّ مثل هذه التّوقّعات تصْطدم بواقع موازين القوى في مجلس نوّاب الشّعب.
إنّ واقع الخارطة السّياسيّة في هذا المجلس، وبمْعزل عن مدى تمثيليّتها لقناعات شعْبنا الأيديولوجيّة، يحول دون استمراريّتها، بل أنّ قابليّة مكوّناتها للتّعايش في فضاء عموميّ مشْتَرَك أضحى ضرْبًا من ضروب الخيال اللاّعلميّ. بحيث أنّ تكرار سيناريو سحْب الثّقة إلى ما لا نهاية له سيفضي إلى مآل محتوم: شلّ هذه المؤسّسة الأصليّة في منظومة حكم فسيفسائيّة سلّطها على رقابنا دستور 2014 على خلفيّة نظريّتي “التّدافع الاجتماعي” و”التّمكين”.
وممّا لا شكّ فيه أنّ رئيس الدّولة، وهو في الأصل أستاذ قانون دستوريّ، على بيّنة من هذا الواقع المرّ، ممّا يقصي إمكانيّة انْخراطه في مثل هذه الحلَقة المفرَغَة، سواء أكان ذلك بتقديم مشروع سحْب الثّقة مجدّدًا إبّان العوْدة البرلمانيّة، فاجْترار – في حالتي القبول أو الرّفض- لنفس الأسباب التي قادت إلى الشّلل التّامّ؛ أو بدعْوة النّاخبين لانتخابات تشْريعيّة سابقة لأوانها، فاسْتنْساخٌ لنفس المشْهد الفسيْفسائيّ السّياسيّ.
إنّ الرّسائل التي بعث بها القائد الأعلى للقوّات المسَلَّحَة للشّعب التّونسيّ، لئن كانت مُشَفَّرَة في دقائقها، إلاّ أنّها تصبّ في خانة واحدة، وهي تغيير قواعد اللُّعْبَة السّياسيّة في البلاد. إلاّ أنّ هذا الأمْر لَن يكون متاحًا وفق دسْتور 2014 إلاّ بمبادرة تشريعيّة يصادق عليها مجلس نوّاب الشّعب بالأغلبيّة. والأمْر غير مُتاح إزاء واقع الشّلل التّامّ الذي يشكو منه المجلس منذ بداية دورته. بحيث أنّ الخيار الأوحد المتاح أمام رئيس الجمهوريّة إنّما هو عزْل الجهة التي أنْتجت موازين القوى الحاليّة بفرضها للنّظام البرلمانيّ المُعّدَّل القائم على توزيع ثلاثيّ لرئاسة الدّولة، والجهة المُشَار إليْها هاهنا هي تنظيم الإخوان المسلمين-إمارة إفريقيّة.
ولئن كان نهج رئيس الجمهوريّة في الغرض لا يسْتدعي أيّ تفْصيل، فإنّ المسار المؤدّي لهذه الغاية يتطلّب مزيد التّدقيق في القول.
ضرورة إقْصاء للطّرف السّياسيّ المتسبّب في المطبّ الذي تردّت إليه الدّولة التونسية
لقد أشرْنا أعلاه إلى تخصّص رئيس الدّولة القانونيّ، ولا نخال الرّجل متوخّ لسبيل أخرى في معالجته لهذا الملفّ سوى النّهج القانونيّ؛ بحيْث أنّ إقْصاءه للطّرف السّياسيّ المتسبّب في المطبّ الذي تردّت إليه الدّولة -أعني التّنظيم الذي أطْلق على نفْسه اسْم النّهْضة، وهو باسْم “النّكْسة” أجْدَر- لن يرْتكز إلاّ على قوّة القانون. وأقْوم سبيل في هذا الاتّجاه إنّما هو الاحتكام إلى القضاء (المُحرَّر من قبضة رموز التّنظيم الإخواني).
وفي هذا الإطار يتنزّل العَهْد الذي قطَعَه رئيس الدّولة على نفْسه بمحاسبة مَن يقف وراء اغْتِيال الشّهيد محمّد البراهمي -محاسبة قضائيّة- بإثر لقائه أرملته. وخلافًا لما كان عليه الأمْر مع مَن سبقه على رأس الدّولة، فإنّنا على قناعة تامّة بأنّ هذا العهْد لن يكون، في صورة الحال، لمجرّد المناورَة السّياسيّة. إنّ المعطيات الجديدة التي كشفت عنها هيئة الدّفاع عن الشّهيد البراهمي في مؤتمرها الصّحفيّ الأخير قد أدركت درجة من الدّقّة والخطورة لا تحتمل مزيد المماطل الإجرائيّة شكْلاً والتّعْويم أصْلاً. كما أنّ سحْب الملفّ القضائي المتّصل باغتيال الشّهيد البراهمي من ابتدائيّة تونس، ورفع يد مَن تحوم حوله شبهات التّستّر عن معطيات وقرائن من شأنها أن تورّط بعض رموز التّنظيم في علاقة بما اصطلح على تسميته بالجهاز السرّي لتنظيم النّهضة (ب. ع.)، أي ذراعها المسلَّح، ينْبئ بإرادة واضحة لحلْحَلة ملفّ القضيّة في اتّجاه الوصول إلى الجناة الحقيقيّين، أي أصحاب المصلحة من وراء اغتيال الشّهيد.
وممّا يعْضد هذه الإرادة السّياسيّة أنّنا وقفنا – عبر قنوات التّواصل الاجتماعي والمواقع الإخباريّة الإلكترونيّة-، ولأوّل مرّة منذ 2011، على إحياء لذكرى العمليّات الإرهابيّة التي طالت مؤسّسات سياحيّة في سوسة والمنستير في 2 أوت 1987، وأسفرت عن ضحايا من بين الأجانب والتّونسيّين. وما اسْتتْبع ذلك من أحكام قضائيّة شملت إلى جانب منفّذي العمليّة (وقد حُكم على بعضهم بالإعدام)، رموز تنظيم الإخوان-إمارة إفريقيّة.
وممّا هو خليق بالملاحظة في هذا الشّأن، أنّ الصّفقة التي أُبرمَت بين “صانع التّغيير” آنذاك والأجهزة المخابراتيّة الرّاعية لهذا التّنظيم منذ تركيزه في مصر في بداية القرْن الماضي، والتي عبّر عنها مرشد التّنظيم في ربوعنا -المدعوّ راشد الخريجي (شُهر: الغنّوشي)- قائلاً: “الله حامينا في السّماء وعلى الأرض لدينا زين العابدين”، والتي وقَع بموجبها تبْييض الجناة، لا ولن تحول دون اسْتحْضارنا لحقيقة تاريخيّة لا مندوحة عنها، وهي إثبات ورقات القضيّة القطعيّ لتورّط أمين عامّ التّنظيم (المدعوّ حمّادي الجبالي) وأعضاء من مجلس شوراه في هذه الجرائم الإرهابيّة تخطيطًا وتنفيذًا. بل أنّ الأبحاث قد كشفت آنذاك عن بعض حيثيّات دوْر الإشراف العامّ عن العمليّات الإرهابيّة الذي اضطلع به المدعوّ راشد الخريجي.
وفي حين كان هذا الأخير يمتطي طائرة خاصّة للتّنعّم في العاصمة البريطانيّة مبجَّلاً مُكرَّمًا، تكفّلت الدّولة التّونسيّة بتعْويض المصابين (وعددهم 13 شخصًا بين تونسيّين وأجانب) من مال دافعي الضّرائب.
فما أشبه الأمس باليوم! إنّ هذا التّنظيم باق على حاله: عنْف، فإرهاب، فدماء أبرياء وأرواح تزْهَق بدون وجْه حقّ… إنّ مطلب القصاص من هؤلاء الإرهابيّين هو حقّ الأرامل واليتامى، بل أنّ هذا الحقّ يرقى إلى مستوى الواجب لمَن تولّى أمْر ضحايا هذا التّنّين المتستّر يثوب التّقوى والتّديّن!
القصاص من المجرمين… هذا ما وعد به رئيس الدّولة السيّدة مباركة -أرْمَلة الشّهيد محمّد البراهمي-، ولا نخاله إلاّ على الوعْد باق، ولالتزاماته موفّ… فالرّجل لم نعدّ له أدنى سقطة أخلاقيّة من ذي قبل، وهو ضمن زمْرة الثّقاة… فلا تخْشى –سيّدي الرّئيس- في الحقّ لومة لائم… وامْض قُدمًا في إرْجاع الحقّ لأصحابه… رافقتْك العناية وسدّدَت خُطاك!
* جامعي وكاتب.
شارك رأيك