تكاثرت التجاوزات الملتحفة ب”حرية التعبير” وتجاوزت كل الحدود القصوى والخطوط الحمراء القانية، بدء بالتصريحات التحريضية الخطيرة للعديد من أشباه “السياسيين” المنفلتين، الذين خسروا كل ما تبقى لديهم من مصداقية لدى الشعب، فٱختاروا الإمعان في ٱستفزازه للإستفادة الإعلامية من رود فعله، التي تحولهم أحيانا من “متهمين بالتحريض” إلى “ضحايا أعداء الحرية”، وصولا إلى ضفادع مستنقع الفن الهابط الذين ركبوا سروج الوضاعة والرداءة والسفالة والفحش، لجمع ملاليم الأغبياء واستدرار ضحكاتهم الهستيرية المحمومة !
بقلم مصطفى عطية *
كل هذه الوقائع والأحداث المتراكمة بشكل فوضوي غارق في حضيض الوضاعة ومثير للإزعاج والإحباط، جعلت الكثير من المواطنين، من الخاصة والعامة، يحملون “الديمقراطية”، التي نزلت عليهم تنزيلا، و”الحرية” التي جاءتهم على موجات الفوضى والإنفلات، كل الأزمات التي عصفت بهم، وتداعياتها الكارثية على ما تبقى من استقرار البلاد، وتناسوا أن الديمقراطية والحرية بمفهوميهما الصحيحين براء من هذه التجاوزات، التي كان من المفروض توجيهها إلى نظام سياسي أعرج عبث بكل القيم والمبادئ وانتهك مفاهيمها وأصولها. فما يحدث في بلادنا لا علاقة له بالديمقراطية والحرية أصلا، وإنما هو توظيف فلكلوري لهما.
التوظيف الفلكلوري للحرية والديمقراطية
من المؤسف جدا الإقرار بالحقيقة المؤلمة والمتمثلة في تلك المعادلة المشحونة بكل أنواع وأشكال الوضاعة والغباء والحمق، فالذين انتخبوا الإرهابيين والمتحيلين والمهربين والمشعوذين والفاسدين والجهلة والأميين وحتى المعتوهين، وجعلوا منهم “نوابا” لهم في البرلمان، هم أنفسهم الذين يحضرون حفلات العهر بٱسم الفن، ويضحكون ملئ أشداقهم للبذاءة والسوقية والوضاعة، ويدافعون عنها بٱعتبارها “حرية تعبير” ! وهم الذين يجهلون أن الحرية ولدت يوم ولد القانون، وهي التي تنتهي يوم تبدأ حرية الآخر، وهي تلك القيمة السامية التي لا يجوز تمريغها في أوحال البذاءة والتهور .
لا تستقيم الحرية إلا عبر الإيمان العميق بقيمها ومبادئها والإلتزام بشروطها والإعتراف بنسبيتها وبالتالي الإستعداد الجماعي لحمايتها وصيانتها من دعاتها والرفعين لشعاراتها والمروجين ، صباحا مساء، لفضائلها، لأن أعداءها والمشككين في جدواها، الزمن وحده كفيل بإثبات صحة مقارباتهم من عدمها !!
الحرية ولدت يوم ولد القانون
صحيح أننا نظمنا إنتخابات بالحد الأدنى المطلوب من الحرية، رغم وجود نظام إنتخابي يصادر حرية الناخب في الإختيار الفردي ويفرض عليه التقيد بقائمة لا يعلم عن الذين حشروا فيها شيئا، ولكن ومهما كان حيز الحرية المتوفر لا يعني ذلك، مطلقا، أننا ثبتنا أركان ديمقراطية وحرية حقيقيتين، لأن المسار الديمقراطي والتحرري لا يختزل في صندوق انتخاب، فما دام الجهل بقيم الديمقراطية والحرية وشروطهما وٱلتزاماتهما ونسبيتهما سائدا في الساحة السياسية والإعلامية والفنية بالخصوص فالفوضى ستتسع وتتواصل والشطحات الفلكلورية ستأخذ أبعادا درامية ويكون الوطن المنهك هو الخاسر الأكبر.
يتساءل التونسيون الملتاعون بمرارة المحبطين وفاقدي الأمل : هل قدرنا، وقد فتحنا أعيننا على الأحلام المجنحة، أن نعيش على إيقاع الإنكسارات والنكسات والهزائم والنكبات؟! هل بالغنا في الحلم ورفعنا من سقف طموحاتنا وبنينا قصورا من الرمال غير عابئين بالعواصف التي ستنسفها؟ لقد هزتنا الآمال المنفلتة، مرارا، ولكننا سرعان ما نستفيق على فواجع مرة وقاسية، فنتراجع إلى الوراء خاسئين تلاحقنا لعنات الخيبة والإهانة والعار.
لماذا أسقطنا أنفسنا في هذا القاع ؟
حاولنا النهوض، عدة مرات، وشكلنا من أوهامنا أحلاما أخرى، ورسمنا ملامح طموحات ابتكرناها من رحم تطلعاتنا التي لا تتوقف أبدا، وعندما خيل إلينا أننا حلقنا، عاليا وبعيدا، تهاوينا بسرعة لتلفنا أردية العجز وتعصف بما تبقى لدينا من إرادة وعزيمة.
مع تتالي الإنكسارات تتداعى قدرتنا على صناعة الأحلام، وتعصف بنا آلام الإحباط حتى إقتنعنا في نهاية الأمر بأننا “شعب النكبات”، وقدرنا أن نبقى رهائن أزلية في قبضة الخذلان والخيانات.
كم من حلم صنعناه، وشيدنا على توهجه طموحاتنا ، لكنه تبخر وٱندثر. حدث ذلك مرارا بالسيناريو ذاته، وأخيرا في ما وصفه الغربيون ب”ثورة الياسمين”، التي لم تكن، في نهاية الأمر، إلا من جنس تلك الأحلام التي تطوقنا بسحرها تم تنقلب إلى أضغاث كوابيس.
هذه الوضعية الدرامية لا تخص تونس فقط وإنما كل البلدان العربية، دون إستثناء، بل أن تونس تبقى الأقل انسياقا في هذه المتاهة، لكن المسألة، في جوهرها، لا تعالج بمثل هذه المقارنات النسبية، بل بالبحث في جذور أسبابها، وهي عديدة ومتشعبة، وقد جاءت العودة إلى مربع الفوضى والإنفلات والبذاءة لتثير فينا السؤال المرير: لماذا سقطنا في هذا القاع؟
* صحفي و كاتب.
شارك رأيك