في هذا المقال يفتتح الشاعر والكاتب سوف عبيد سلسلة من النصوص حول سيرته الذاتية من بئر الكرمة في غمراسن في الجنوب التونسي حيث أصل العائلة إلى تونس العاصمة و بقية مدن الوطن العربي والعالم التي زارها.
بقلم سُوف عبيد
منذُ عهد قديم كانت الصِّلات مُستمرّةً وثيقة ببن أهالي الجنوب التونسيّ والعاصمة وهي مُوَثّقَةٌ منذ العهد الحفصيّ على الأقل.
أخبرني عمّي الأكبر أنه أدرك دكانَ جدّه قُرب جامع الزّيتونة عند بداية نهج تُربة الباي وكان أوّل مَحط رحاله من غمراسن عندما قَدِم إلى تونس العاصمة مع جدّته طفلا وقد كانت رحلتُه على متن عربة وذكر لي عمّي أنّ أربعةً من الخيل كانت تتناوب في كل مدينة فسارت بحثيث السّير يومين وليلةً، وبتطوّر وسائل النّقل أضحت الرحلة العاديةُ تدوم يوما كاملا أو ليلة بتمامها.
ما أجملَ ذلك الزّمن ـ رغم شَظف عيشه
كانت العائلة الكبرى تجتمع مع بقيّة الأقارب في الحُوش ليلةَ السّفر لتوديع المسافر قُبيل المغرب فيخيّم حُزن ثقيل يحاولون إخفاءه بالدّعاء ـ بين الحين والحين ـ أن تكون الرّحلةُ سالمة والسّفرةُ ميمونةً والعودة كاسبة غانمة… ويحمل بعضُ المُودّعين السّويق والقديد زادًا للمُسافر والبعض يُسلمه رسالة أو صُرّةً ويُوصيهِ ببعض الأمور فلا بريدٌ ولا هاتفٌ ولا أنترناتٌ في ذلك العهد بباديةِ ـ بئر الكرمة ـ حيث عاش الأهلُ مثل غيرهم من هجرة الرّجال جيلا بعد جيل.
عند عودة أحدهم ـ مرّة أو مرّتين في السّنة ـ يجتمع الأقارب في حُوش العائلة المنحوت غارًا بجانب غار في سَفح هَضبة تُطل على أشجار الزّياتين والتّين المغروسة في جَنبات الوادي حيث بئر الكرمة فيتربّع ذلك العائد مُبتهجا على إهابِ خروف وحصير ويجلس إلى جانبه أكبرُ رجال العائلة الواحد بجانب الآخر بحسب الأعمار وقد تتصدّر المجلسَ الجدّةُ أو العمّةُ العجوز إذا كانت أكبر الحاضرين فهي التي تُشرف على توزيع كؤوس الشّاي الأخضر المُنَعنع وهي التي تقوم بفتح الحقائب والأكياس وهي التي تُوزّع الهدايا وتُقسّم بالقِسط الحُمص المقليّ حفنةً حفنة على الحاضرين والغائبين مع حلوى الشاميّة، ويتنازل عادةً الرّجال عن نصيبهم لفائدتنا ـ نحن الصّبيان ـ فترانا نُبادر إلى الحلوى فنجعل من قراطيسِها أوراقا نقديةً نطويها بعناية ثم ندسّها في جيوبنا.
ما أجملَ ذلك الزّمن ـ رغم شَظف عيشه ـ حيثُ عاشت فيه عائلتُنا الكبرى حول بئر الكرمة على الوئام والمحبّة في ما بينها وبعزّة وكرامة مع غيرها… ولكن هيهاتَ ! فقد توالت سنواتُ الجفاف وشحّت ينابيع البئر وتزاحمت فيه الحبال والدّلاء وطال حول حوضه الاِنتظار إلى أن يبست أغصان التّين والزّيتون ووحده النّخل ظل أخضر شامخا فنزحنا إلى العاصمة عائلةً تِلوَ عائلة وتشتّتنا في شوارعها وأحيائها وضواحيها وعندما رحل الكبارُ اِنقطعت العلاقات والمَودّات بيننا شيئا فشيئا حتّى أمسَى البعضُ لا يعرف الآخر بل ونسي أو تناسَى بئرَ الكرمة فَما عادَ يُذكَرُ على الألسنة إلا نادرًا… وَاحَسْرَتَاه…
الغار
غارُ حُوشِنا القديمِ
مَثَله مَثَلُ رَحِمِ الأرضِ
دافئ في ظلامِهِ
أليفٌ في صَخْرهِ
لا وحيَ فيهِ
إلاّ… هَمْسُ الأرض
في حُوشنا القديم
مائدةُ الشّايِ كانتْ تجلسُ القُرفُصاء
في الظلّ … بيننا
مرّةً في الصّباح مرةً في البُكاء
حينمَا
خرَجتْ جدّتِي في بيَاضِ البيَاض
اِنتظرتُ
اِنتظرتُ لمْ تعُدْ
في حُوشِنا القَديم
أبِي … مُتربّع على حَصيرهِ
حبّةٌ إثرَ حَبّةٍ … في سُبحتِهِ
صحراءُ في صمتهِ
أسمرُ في جُبّتهِ
البيضاءِ
أمّي
عروسٌ دائمًا
ما أحلى بَسمتَها في سِواكهَا
بين الجَمر والفِنجانِ يدُها
لمّاعةٌ فِضّتُها في سِوارها
فِي حُوشنا القديمِ
الشّمسُ
تَرْتقِي… تَتدَحرَجُ أمامي
ثمّ تَغرَقُ في الرّمل
النجومُ
أقربُ إليَّ من السُّوق
كمْ مرّةٍ اِشترتْ عيناي
تصاويرَ بالألوان
مِن الأقمار
كم مرّةٍ رَكِبتُ الهلال أُرجُوحةً
وغسَلتُ له يديهِ
في إناءِ الفَخّار
في حُوشنا القديم
الشّوْكُ والحَصى
أقدامِي كانتِ الأرضُ
على مَدى البَصرْ
بلا حذاء… بلا حُدود
وبلاَ جَواز سفر !
شارك رأيك