ربما يجد رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي في تجربة الهادي نويرة خلال السبعينات من القرن الفائت مثالا في كيفية إنقاذ البلاد بعيدا عن مزايدات السياسيين الشعبويين والعقائديين المرتبطين بالأجندات الخارجية والدكاكين الحزبية التي تعج بالإنتهازيين وأشباه الأميين والفاسدين ورعاة التطرف والإرهاب.
بقلم مصطفى عطية *
قرر الزعيم الحبيب بورقيبة، رحمه الله ، تعيين الهادي نويرة وزيرا أول في الثاني من شهر نوفمبر 1970 خلفا للباهي الأدغم، الذي حمله مسؤولية التغافل عن الكوارث التي حلت بالبلاد نتيجة سياسة التعاضد التي انتهجها الوزير “القوي ومتعدد الحقائب” أحمد بن صالح، وخانه في الوصول بها إلى بر الأمان والنجاح، العديد ممن عول عليهم ومنحهم ثقته !
كانت كل المؤشرات في الأحمر، كما أكد ذلك خبراء الإقتصاد بالداخل والخارج في تلك الفترة، والبلد على حافة الإفلاس والإنهيار، والمناخ الإجتماعي متوترا والصراعات الداخلية تعصف بالحزب الإشتراكي الدستوري الحاكم، وأعشاش الدبابير تمكنت من قصر قرطاج بعد أن حولته وسيلة من عمار، حرم رئيس الجمهورية، إلى مركز لهيمنتها ونسج المؤامرات ونصب الفخاخ لخصومها.
الحل في كفاءات نظيفة الأيدي
لم يتردد الهادي نويرة في قبول “الهدية المسمومة” من باب الوطنية المتجذرة في ذاته والنضالية التي عرف بها طوال الكفاح ضد الإستعمار، ولم يهدر وقتا طويلا لٱنتقاء الكفاءات التي سيعول عليها، ولوضع برنامج إصلاحي مرحلي، وٱنطلق في العمل الجدي والفاعل تحدوه عزيمة الواثقين من أنفسهم والعارفين بقدرات الشعب.
وبالرغم من تصاعد وتيرة دسائس وسيلة بورقيبة، التي لم تستسغ منعها من التدخل في شؤون الحكومة، ومناورات محمد المصمودي وحسان بلخوجة وأحمد المستيري وحتى الباجي قائد السبسي، الذين كانوا يعتقدون أنهم أولى من الهادي نويرة برئاسة الحكومة، وبالرغم أيضا، من ازمة الحزب وظهور تيارات متمردة بداخله وجنوح بعض قيادييه البارزين إلى “التحالف الإنتحاري” مع الإسلاميين لمواجهة اليساريين والقوميين والوحدويين، وبداية تململ الإتحاد العام التونسي للشغل وٱضطرام الإحتجاجات الطلابية، فقد تمكن الهادي نويرة من مواجهة كل هذه العواصف والخروج بالبلاد من مناطق الخطر محققا نسبا قياسيا في مؤشرات التنمية أذهلت المؤسسات الدولية المختصة.
لا شك أن بعض العوامل قد ساعدته على بلوغ تلك الأهداف ومنها بالخصوص نزول الأمطار بعد قحط تواصل طويلا وٱنتعاش الإقتصاد العالمي، لكن قدرته الفائقة على استنباط الحلول العملية والتأقلم مع المستجدات الداخلية والخارجية وٱعتماده على كفاءات وطنية مختصة دون مجاملات وزبائنية ومحسوبية، مكنته من وضع الخطط الإنمائية الناجعة وقيادة عملية إنقاذ البلاد بمهارة سياسية وذكاء إجتماعي ونظافة يد ووطنية عالية وحسن تدبير.
هشام المشيشي ودرس الهادي نويرة
لم يكن هشام المشيشي، المكلف بتشكيل الحكومة، قد واكب مرحلة إنقاذ البلاد بقيادة الوزير الأول الأسبق الهادي نويرة، فهو من جيل ولد في أواخر تلك التجربة الرائدة، وترعرع في خضم أزمات الثمانينات، ولم يتشكل وعيه السياسي إلا في نهاية مرحلة “التغيير” بقيادة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ليجد نفسه بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011 في معترك الفعل السياسي المضطرب، وتبعا لذلك لا نعلم إن هو درس جيدا مرحلة الهادي نويرة التاريخة أو أشار له مستشاروه بضرورة الإطلاع على وقائعها واستخلاص العبرة والدرس من نتائجها الإيجابية على كافة الأصعدة قصد الإستدلال بها في تشكيل حكومته ووضع برامجها.
إن لم يفعل ذلك ولم يحثه مستشاروه على العودة إلى تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادنا المعاصر فما عليه إلا تدارك الأمر بسرعة وٱتخاذ تلك المرحلة وصانعيها بقيادة الهادي نويرة مرجعا له، خاصة وأن الرئيس قيس سعيد قد واكب تلك الفترة في أوج تطلعه السياسي كطالب جامعي، وتمتع كمواطن تونسي بمزاياها وإنجازاتها وتحديدا على مستوى الإستقرار والتطور الإقتصادي والإصلاح التربوي وتجسيم مبدإ الصحة للجميع ووضع المصعد الإجتماعي على ذمة كل المواطنين دون استثناء، ولا أعتقد أن الرئيس قيس سعيد، وككل أبناء جيله من الطلبة، ينكر أنه إستفاد من فضائل المصعد الإجتماعي الذي كان إنجازا بورقيبيا، طوره الهادي نويرة وجدد آلياته ووسع صلاحياته.
الفرصة سانحة أمام المشيشي
يهرع السياسيون، في البلدان المتقدمة والمتحضرة إلى دراسة تاريخ بلدانهم بعمق وروية قصد الإستفادة من فترات النور فيه واستخلاص العبر من مراحل التعثر والأفول، ولكن هذه التقاليد، مع الأسف الشديد، لا تستهوي الكثير من سياسيينا الذين توافدوا على الساحة المضطربة خلال عشرية الجمر هذه، بل الأخطر من ذلك هو جنوح الكثيرين منهم إلى تزييف تاريخنا طبقا لأجنداتهم العقائدية والإيديولوجية ومصالح الجهات الأجنبية التي توجههم وتمولهم، حتى وصل بهم الأمر إلى التشكيك في تضحيات المناضلين التي خلصوا البلاد من الإستعمار الفرنسي، وإلى تخوين الزعماء الذين بنوا دولة الإستقلال المدنية الحديثة وأسسوا للجمهورية وقيمها وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه كالباهي الأدغم والهادي نويرة وعلي البلهوان والطيب المهيري والمنجي سليم وغيرهم من بناة تونس الحديثة.
إن الفرصة مواتية لهشام المشيشي، المكلف من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد، ليعيد الإعتبار للفترات المضيئة في تاريخنا ولرجالها ونسائها الأفذاذ الذين عاهدوا الله والوطن على الوفاء والعمل الصالح، وذلك بالإستئناس بتجربة الهادي نويرة في تشكيل حكومته من كفاءات وطنية عالية ونظيفة الأيدي، وفي واقعية برامجه الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ، بالإضافة إلى قدرته على تأمين الإستقرار عبر تكريس هيبة الدولة وإعلاء سلطة القانون. فلنا في تجربة الهادي نويرة مثالا في كيفية إنقاذ البلاد بعيدا عن مزايدات السياسيين الشعبويين والعقائديين المرتبطين بالأجندات الخارجية والدكاكين الحزبية التي تعج بالإنتهازيين وأشباه الأميين والفاسدين ورعاة التطرف والإرهاب.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك