تناقلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي، بكثافة محملة بالإثارة، معلومة، لم تتأكد مصداقيتها رسميا إلى حد الآن، ومفادها أن “أحد رجال الأعمال الشبان قد ارتشى مزود القصر الرئاسي بالخبز، بما قدره 20 ألف دينار، لوضع مادة سامة في الخبز قصد اغتيال الرئيس قيس سعيد” !
بقلم مصطفى عطية *
هذا الخبر الغريب والمضحك المبكي من المنتظر أن يؤكد التحقيق أنه من وحي خيال عامل مخبزة ساذج. لكنه أعاد إلى الأذهان واقعة تسميم حمودة باشا (حكم تونس من 1782 إلى 1814) في ظروف داخلية وإقليمية مشابهة تماما لما يحدث اليوم، خاصة وأن مواقف الرجلين بدت متطابقة تجاه “الأوضاع الليبية”، التي أعادت نفسها بشكل غريب! إنها عبر التاريح ودروسه تعود حبلى بالإثارة والدهشة والإستغراب.
تدخل حمودة باشا لحماية القطر الليبي من الغزو
يعيد التاريخ نفسه بتفاصيل تكاد تكون متشابهة بشكل مدهش. ففي السادس من شهر جويلية 1793 تصاعد الصراع على السلطة في ليبيا بين أفراد عائلة القرمانلي الحاكمة، وفجأة أرسى في ميناء طرابلس أسطول يحمل العلم العثماني ويقوده قابوجي باشي مصحوبا بأربع مائة عسكري مسلح، ترجل القائد وتلا فرمانا سلطانيا عثمانيا يقر بخلع علي القرمانلي وتولية علي أفندي برغل الملقب بالجزائري مكانه، وهو إنكشاري من بلاد الكرج أقام طويلا بالجزائر حتى أصبح ينسب إليها.
يقول المؤرخ الكبير الراحل رشاد الإمام في كتابه “سياسة حمودة باشا في تونس” : “بالنسبة لحمودة باشا وسياسته الخارجية، كان الأمر لا يقف عند حد عزل وال وتعيين آخر، بل كان حدثا كبيرا يهدد أمن تونس واستقلالها… فقرر الهجوم برا وبحرا… لحماية بلاده من آثار وتداعيات الفتنة” .
صيانة أمن تونس الداخلي والخارج
في الثاني من نوفمبر 1794 أقلع الأسطول التونسي بٱتجاه جزيرة جربة وحررها من من جنود علي برغل وعملائه الذين تسللوا إليها ثم إتجه إلى طرابلس ترافقه حملة برية قوامها نحو عشرين ألف رجل بقيادة الوزير يوسف صاحب الطابع.
بعد شهرين ونصف وتحديدا في السادس عشر من جانفي 1795 كان الجيش التونسي قد احتل المناطق المتاخمة للعاصمة طرابلس مدعوما بعناصر من القبائل الليبية التي هبت من كل حدب وصوب لنصرة قوات حمودة باشا.
وعندما وجد علي برغل نفسه محاصرا بعد أن هرب وٱستسلم عدد كبير من جنوده ومرتزقته ملأ سفينتين بما سلبه من طرابلس و ذبح الرهائن والأسرى ثم أبحر مع رجاله ورفع شراعه نحو مصر” ( ب. روا : “وثائق عن حملة طرابلس”).
عودة الإستقرار إلى ليبيا وغضب العثمانيين
يقول المؤرخ رشاد الإمام رحمه الله في كتابه المشار إليه آنفا : “عندما رجع الجيش منتصرا إلى تونس، بعد أن أتم المهمة الموكلة إليه بكل نجاح وأرجع القرمانليين إلى عرشهم، ذهب الباي (حمودة باشا) بنفسه لٱستقبال قائد الحملة تكريما له” معلنا تحقيق هدفه في حفظ سيادة تونس وتأمين إستقرارها ودرء مخاطر اللهيب القادم من ليبيا، أما المفكر الفرنسي الشهير جان جاك روسو فيؤكد أن مبادرة حمودة باشا بإطفاء نيران الفتنة في طرابلس ومنع انتقالها إلى تونس أثارت غضب واستياء الدولة العثمانية ورفعت عاليا شهرة حمودة باشا في المنطقة.
قيس سعيد يعيد التوازن للموقف التونسي تجاه ما يحدث في ليبيا
إن ما حدث في ليبيا في أواخر القرن الثامن عشر يعاد اليوم بشكل أكثر خطورة على تونس وأمنها ولكن حكام هذا الزمن في بلادنا يفتقرون لنباهة وحنكة وحكمة حمودة باشا وحرصه الشديد على حماية تونس واستقرارها، حتى جاء قيس سعيد ليعتلي سدة رئاسة الجمهورية بعد نجاح ساحق في انتخابات ديمقراطية، ويعيد للموقف التونسي تجاه ما يحدث في ليبيا توازنه وواقعيته بما من شأنه أن يساهم في حماية بلادنا من مخاطر اضطرام نيران الفتنة على حدودنا الجنوبية.
طبعا لا يعني هذا أن قيس سعيد يفكر في قيادة حملة عسكرية على طرابلس، كما فعل حمودة باشا، فالزمن ليس هو الزمن والمواثيق الدولية تمنع ذلك، ولكنه سعى إلى استخلاص العبرة مما حدث منذ قرنين وربع القرن، والإقتداء بحكمة وحرص حمودة باشا على حماية بلادنا وذلك بالتدخل غير المباشر، المسموح به قانونيا وأخلاقيا، في الملف الليبي وممارسة حق تونس التاريخي في استنباط الحلول لإطفاء الفتنة ومنع وصول لهيبها إلى أراضينا.
من تسميم حمودة باشا إلى محاولة تسميم قيس سعيد
إن صحت رواية محاولة تسميم قيس سعيد أو لم تصح، ولا نظن أنها ستصح، مثل عديد أخبار المؤامرات التي يعج بها خيال السياسيين و يتلقفها الإعلام بغباء و انعدام حرفية، فهي لا تختلف كثيرا عن واقعة تسميم حمودة باشا وإن تنوعت الأدوات المستعملة نسبيا، كما أن ظروف الحادثتين إقليميا والأطراف المتدخلة في الشأن الليبي تكاد تكون هي ذاتها.
الفارق الوحيد يتمثل في جزء صغير من التفاصيل لا غير، ففي محاولة اغتيال قيس سعيد كانت الفرضية أن يتم دس السم في الخبز الذي سيقدم إليه، في حين تولى مملوك نابولي الأصل يدعى ماريانو ستينكا وضع السم، بمساعدة الطبيب مندريتشي، في فنجان القهوة وتبغ النارجيلة الذين قدمهما إلى حمودة باشا وهو في مجلسه ببيت الباشا في قصر باردو محاطا بوزرائه ومستشاريه ليلة عيد الفطر من سنة 1229 للهجرة الموافق 1814 للميلاد . هكذا هي وقائع التاريخ تعيد نفسها بأشكال درامية حتى وإن اختلفت في بعض التفاصيل.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك