في تدوينة نشرها اليوم، الثلاثاء 25 أوت 2020، بعد سويعات من الإعلان عن تركيبة حكومة هشام المشيشي، يرى المؤرخ الجامعي ورئيس ديوان الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي أن تونس تدخل اليوم في عهدة حكومية جديدة، بلا أفكار ولا برامج ولا رؤية واضحة لمشاكل البلاد و لطرق معالجتها. و في ما يلي نص التدوينة…
بقلم عدنان منصر *
الحكومات ليست أشخاصا، بقدر ما هي منطق. لا قيمة للأشخاص إلا بقدر تعبيرهم، أو تمثيلهم، لذلك المنطق. لذلك فالموضوع ليس موضوع أسماء، بل في اختيار التوليفة، والمنطق الذي قاد المكلفين بالمهمة لإنجاز تلك التوليفة.
لا أحد يعرف شيئا عن أفكار الوزراء الجدد، دون أي استثناء. لا أحد يعرف شيئا أيضا عن أفكار السيد رئيس الحكومة المكلف. أما السيد رئيس الجمهورية، فما نعرفه لحد الآن عن طريقة تفكيره لا ينفعنا كثيرا في توقع الذي يريده من هذه الحكومة على مستوى التوجه العام، وعلى مستوى الملفات أيضا.
تلافي الأحزاب في عملية تشكيل الحكومة هل سيقصيها من مناقشة مشاريع القوانين؟
“العبرة” الوحيدة التي يبدو أنها قادت عملية تشكيل الحكومة هو “فشل الأحزاب”، وبالتالي فإن التوجه نحو التكنوقراط بات “الخيار الوحيد” للنجاح ! هذه خلاصة متسرعة في الحد الأدنى، ساذجة في الحد الأوسط، وغبية في توصيفها الصحيح. إذا تلافيتَ الأحزاب في عملية التشكيل، فهل ستقصيها من مناقشة مشاريع القوانين التي ستتقدم بها للبرلمان، والتي ستحكم بواسطتها؟ سؤال آخر: هل التشكيلة التي قدِّمت، ما عدا استثناءين اثنين، هم تكنوقراط؟ أجزم ألا أحد من المعنيين بالتشكيل قد فتح المعجم لفهم الكلمة. لا أحد طلب منهم مطالعة ما كُتب من أدبيات حول الموضوع وفي التجارب المقارنة. فقط فتح المعجم !
نحن ندخل إذا عهدة جديدة، بلا أفكار. الحكم أداة لتطبيق الأفكار، فأين هي تلك الأفكار؟ قد يستعاض عن الأفكار في أوقات الرخاء، لكن هل يستغنى عنها في زمن الأزمة المتصاعدة والتي تهدد بالانفجار اليوم؟ إذا كان يُحتاج للتكنوقراط لحل الإشكالات، أفليس مطلوبا منطقا أن يكون إختيارهم قد تم بناء على فهمهم لتلك الإشكالات؟ هذا أدنى الإيمان، وأدنى المسؤولية، وأدنى المتوقع.
رئاسة الجمهورية فقدت قدرتها على النظر للأمور بالمسافة المطلوبة
المحبط فعلا في المنطق الذي قاد عملية التكليف والتشكيل، هو السطحية الكبيرة التي تعاملت بها أول مؤسسة سيادية في البلاد وتبسيطها المثير للإشمئزاز لوضعية بالغة التعقيد. رئاسة الجمهورية كمؤسسة، فقدت قدرتها على النظر للأمور بالمسافة المطلوبة، لأن ما أصبح يهمها هو الإمساك بخيوط القرار، بغض النظر عما تريد صنعه بالقرار.
هناك لوم يوجه للأحزاب، وهو مقبول من وجهة نظري، أن ما يهمها هو الحكم وليس الإصلاح. هل يفعل السيد رئيس الجمهورية اليوم غير ذلك؟ قد أكون متشددا في هذا النقد، ولكنني مستعد لمراجعة الفكرة من أساسها إذا ما رأيت أفكارا للإصلاح، وعمقا في التناول. ولكن أين كل ذلك اليوم؟
ما يحصل اليوم خطير لعدة اعتبارات: أولها أننا نفقد باستمرار القدرة على الإستفادة من الإلتفاف الإنتخابي الواسع الذي أنجِز حول رئيس الجمهورية. ثانيها أن هذه الخسارة مزدوجة: خسارة الدور التحكيمي لرئيس الجمهورية، وتفويت الفرصة على إصلاح حقيقي للمنظومة السياسية في البلاد. طيلة حوالي تسعة أشهر من العهدة الرئاسية، لم تتقدم الرئاسة بمشروع قانون واحد للبرلمان. هذا هدر واسع للأمل الذي يذوي شيئا فشيئا مع الوقت.
الآن سيُصبح بإمكان الرئيس أن يحكم مباشرة. ولكن الحكم ليس مجرد جائزة نفوز بها بعد مقابلة ملاكمة. سيحكم الرئيس ونحن لا نعرف شيئا عن أفكاره الإقتصادية والإجتماعية، نظرته للثقافة والتربية، ولكل شيء، ماعدا أن الأحزاب لا تساوي شيئا وأن النهضة “شريرة”. هذا قليل جدا للحكم، للأسف.
* مؤرخ جامعي ورئيس ديوان الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.
شارك رأيك